تماما كما نحتاج اليوم فى مصر إلى ضبط إيقاع الأداء الحكومى على نحو يقنع المواطن بفاعلية الحكومة ووضوح رؤيتها السياسية، نحتاج وبشدة إلى ضبط إيقاع النقاش العام بما يتواءم مع قضايا وتحديات المرحلة الانتقالية الراهنة. والمسئولية هنا ملقاة على عاتق وسائل الإعلام ذات الدور الرئيسى فى صياغة تفضيلات المواطنات والمواطنين ذوى الاهتمام بالشأن العام والسياسى.
لم يعد مقبولا أن تركز وسائل الإعلام على قضايا الإثارة المرتبطة بالمرحلة الراهنة وتهمش المهام السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية الكبرى للعمل الوطنى. على إثارتها، لا تمثل التحقيقات مع آل مبارك ورموز النظام القديم بتطوراتها خلال الساعات الأخيرة إلا مستوى من مستويات المساءلة والمحاسبة القانونية على الفساد المالى وانتهاكات حقوق الإنسان وتعذيب وقتل المصريين التى ارتكبها نظام مبارك خلال العقود الماضية.
كذلك لا تمثل المساءلة والمحاسبة القانونية هذه، وعلى مركزيتها للانتصار لسيادة القانون، إلا مهمة واحدة بين الكثير من مهام الانتقال الديمقراطى المطروحة علينا اليوم. فالمساءلة والمحاسبة القانونية للنظام القديم تهدف لاستكمال هدمه بمعاقبة من تورطوا فى جرائم الفساد والاستبداد، ولتطهر المجتمع الرمزى منه بوضع بعض رموزه خلف القضبان. أما المهام الكبرى الأخرى فترتبط بتفاصيل البناء الديمقراطى من حوار وطنى وانتخابات ودستور وجدول زمنى حاكم وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة (وليس فقط المؤسسات الأمنية) وفقا لمرتكزات سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان ومعايير النزاهة والشفافية والكفاءة، وبتفاصيل العمل الوطنى فى المجال الاقتصادى والأمنى.
على الرغم من ذلك تطغى التحقيقات مع آل مبارك ورموز النظام القديم على عناوين الصحف وأعمدتها الرئيسية تماما كما تهيمن خباياها وتطوراتها على البرامج الحوارية. فى الوقت الذى يبحث به المواطن عن تحليل لقانون مباشرة الحقوق السياسية ولنظام الانتخابات القادم فلا يجد، أو يفتش عن تقديرات دقيقة للأوضاع الاقتصادية والأمنية الراهنة فلا يجد إلا أحاديث مرسلة تارة تخيف من اليوم والغد وتارة تستخف بهما، أو يريد قراءة تفسير موضوعى يبتعد عن الإثارة للأحداث الطائفية الأخيرة فلا يجده إلا فيما ندر.
بل إن الإفراط فى صناعة الإثارة الإعلامية حول التحقيقات مع آل مبارك ورموز نظامه، وبجانب إخراجها للنقاش الإعلامى من خانة التركيز على مهام البناء الديمقراطى، ترتب سالبين إضافيين شديدى الخطورة. الأول هو نشر ثقافة ثأر وانتقام فى المجتمع تتناقض مع واجب استكمال هدم القديم بمساءلة قانونية منضبطة، كما تتناقض جملة وتفصيلا مع ثقافة التسامح والعمل الإيجابى الضرورية للديمقراطية. أما السالب الثانى فهو تهديد نزاهة التحقيقات وإجراءات التقاضى من بوابة ضغط الرأى العام وأحكام المواطنين المسبقة.
هذه دعوة لوسائل الإعلام وللفاعلين بداخلها للالتفات إلى ضبط الإيقاع والمساعدة فى توجيه النقاش العام باتجاه البناء وليس الهدم، ثقافة التسامح والعمل الإيجابى وليس الثأر والانتقام.