تنتج المجتمعات حتى تستهلك، فليس الاستهلاك عملا سلبيا، لكنه يؤدى وظيفة فى الاقتصاد. فماذا لو انخفض استهلاك المجتمع إلى حدوده الدنيا؟ سوف يقل الإنتاج، وتضطر المصانع إلى تخفيض العمالة بها، وتزداد البطالة، وقد يتجه بعض الأعمال إلى إغلاق أبوابها. ولكن إذا تسلطت حمى الاستهلاك على البشر، فإن النتائج قد تكون عكسية، حيث تقل قدرة الناس على الادخار، وينفقون كل ما فى جيوبهم، وقد تستبد بعقولهم تطلعات الاستهلاك، ويتجهون إلى الاستدانة أو الاكتئاب أو محاولة الكسب بأى سبيل، فى الوقت الذى تزداد معدلات استيراد السلع غير الضرورية حتى تلتهم الرصيد المتاح من النقد الاجنبى.
ترتفع أسعار السلع منذ فترة فى المجتمع، وتزداد معدلات التضخم، ويشكو الناس من أن القدرة الشرائية للجنيه فى انخفاض، بينما أسعار السلع فى ارتفاع. وهناك من المحللين الاقتصاديين من يقولون إن القادم قد يكون أسوأ، حيث تستمر أسعار السلع فى الصعود، بينما يزداد انخفاض قيمة الجنيه. ومنذ أيام صار حديث الفضائيات، ومواقع التواصل الاجتماعى ارتفاع أسعار وجبات أحد محلات الوجبات الجاهزة الشهير، وكأن الناس تعيش على هذه الوجبات، أو أن هذا يمثل أسلوب الحياة فى المجتمع. وأظن أن هذا نتاج عقلية الاستهلاك التى غرست فى حياة المصريين، إلى حد أن المرء عندما يمر على محل الوجبات الجاهزة المشار إليه تجد كل الطاولات مشغولة، وطابور أمام المكان المخصص لتسليم الوجبات، وعمال خدمة توصيل المنازل يعملون بكثافة فى الشارع. إذا عدنا إلى سبعينيات القرن الماضى لم يكن أهل مصر يأكلون الوجبات الجاهزة، بما تحمله من مضار صحية، مثلما كانت مجتمعات فى أفريقيا لا يعرفون الدقيق فى صناعة الخبز بل لديهم محاصيل أخرى محلية يصنعون منها الخبز، وكانت الرضاعة الطبيعية هى أساس إطعام الأطفال حديثى الولادة قبل ان ينتشر اللبن الصناعى. ما الحكاية؟ القصة باختصار أن الشركات العالمية الكبرى عرفت كيف تغزو المجتمعات بالإعلان والإبهار وتصدير شكل حياة الغرب إليها حتى تغير من نمط الحياة اليومية، وتجد أسواقا رائجة لمنتجاتها. وقد حدث ذلك بالفعل، مما وضع ضغوطا شديدة على ميزانيات الدول، كما قلصت بشدة من القدرات المالية للأفراد، الذين يلهثون وراء شراء المنتجات.
ولا يشمل التسلط الاستهلاكى استهلاك المادة فقط، ولكنه يمتد ليشمل استهلاك الانسان ذاته من خلال استعراض الوجاهة، والجمال، وممارسة الاستعلاء الطبقى، وقد ساعدت السوشيال ميديا على انتشار المباهاة والافتعال الطبقى.
الملفت أن مصدرى التسلط الاستهلاكى ليسوا من دعاة الاستهلاك البذخى، ويكفى أن ننظر إلى نمط حياة الأسرة الغربية من الطبقة الوسطى، كيف أنهم لا يعيشون بالحياة المصدرة لنا، ويختارون نهجا استهلاكيا فى الحياة، لا يعرف البذخ، أو الترف، أو المغالاة فى الاستهلاك.
أظن أن الحياة تدفعنا إلى أن نعيش بهذه العقلية حتى نستطيع أن يعيش هذا المجتمع.