ما مواصفات الجامعة الناجحة؟
هل الجامعة شركة من المفروض أن تدرّ ربحًا؟
وماذا عن الدول النامية التى لا تستطيع الإنفاق على الجامعة دون أن تحصل على مقابل؟
عندما ننظر إلى العالم من حولنا لن نجد صعوبة فى ملاحظة أننا فى عالم رأسمالى تحكمه قوانين الربح والخسارة قبل أى شىء. لن نناقش هنا ما إذا كان هذا شيئًا جيدًا أم لا فى العموم، لكننا سننظر إلى تأثيره فى أكثر الأمور حيوية فى عالمنا، وهى العملية التعليمية. سنركز على التعليم الجامعى لأن هذا ما أمارسه ولى به بعض خبرة، وإن كان هذا لا يمنع أن كثيرًا مما سنناقشه يمكن أن ينسحب أيضًا على التعليم المدرسى.
بدأت الجامعات من أجل إعطاء الطلبة تعليمًا متقدمًا فى تخصص معين، ثم بدأت تهتم بالبحث العلمى. ومنذ نصف القرن الماضى وحتى الآن أصبح هناك ربط بين البحث العلمى والصناعة، أو هكذا تتمنى الجامعات فى العالم. ثم بدأت الجامعات تهتم باستثمار هذا الكم المعرفى عن طريق الشراكات مع الشركات الكبرى وتقديم الاستشارات، وبهذا تحولت الجامعات إلى «بيزنس». ونرى هذا واضحًا فى إعلانات الجامعات فى عصرنا، حيث أصبحت تشبه إعلانات النوادى والفنادق، إذ غلبت الملاعب والحدائق والحفلات على الصورة أكثر من المعامل والمحاضرات. ولإضفاء لمعة التميز فى جامعاتنا، خاصة غير الحكومية منها، أصبحت لغة التخاطب هى الإنجليزية حتى خارج قاعات المحاضرات، وإن كان المتحدثون لا يستطيعون نطق الكلمات الإنجليزية بطريقة صحيحة. للأسف، هذه النقطة بالذات أصبحت منتشرة حتى خارج الجامعة وبين الأطفال الصغار، وكأن الغرب قد تقدم لأنه يتحدث الإنجليزية مثلا. واستكمالًا لعقدة «الخواجة»، قد تعقد الجامعات شراكات مع جامعات أجنبية حتى وإن كانت تلك الجامعات الأجنبية ذات ترتيب متأخر فى بلادها.
قد لا تكون كل الجامعات تسير على هذا النهج، لكنه تيار واضح من المهم أن نناقشه ونحدد إيجابياته وسلبياته، ثم نقترح روشتة للمستقبل تدفع جامعاتنا إلى الأمام. ومن يدرى، فقد تلهث وراءنا الجامعات الأخرى فى الخارج حتى نوافق على عقد شراكة أو توءمة معها.
• • •
ماذا نريد من الجامعة فى بلادنا؟
قبل أن نجيب عن سؤال: ماذا نريد من الجامعة عندنا؟ أو ما معيار الجامعة الناجحة؟ يجب أن نضع فى الاعتبار أن لكل دولة ظروفها وأولوياتها، وهذه تتغير بمرور الوقت وتبدل الأحوال.
الوضع الحالى:
• نريد أن نحصل على أرباح من الجامعات أو على الأقل نمنع الخسارة حتى لا يتأذى الوضع الاقتصادى.
• نحن فى أوج الثورة الصناعية الرابعة وعلى أعتاب الخامسة، حيث التكنولوجيا هى منجم الذهب الجديد فى العالم. نحن فى عصر البيانات الغفيرة والذكاء الاصطناعى.
• استخدام التكنولوجيا بلا «بوصلة» يؤدى إلى تخريج روبوت بلا أهداف سوى جنى المال والترقى فى الوظيفة، أى بلا إحساس. بالإضافة إلى أن التركيز على الربح يجعل الشركات التقنية الكبرى تسارع فى عرض منتجات تكنولوجية قبل أن تكون جاهزة تقنيًا وتشريعيًا واجتماعيًا، ومن هنا يأتى الخطر على الإنسانية.
الاستنتاج: نحتاج إلى وضع مصروفات للجامعة، مع منح إعفاء للمتفوقين، وزيادة المصروفات بحسب المستوى العلمى. أى يجب أن نركز على التعليم أولًا فى الفترة الحالية، وتخريج طلبة قادرين على العمل فى شركات وطنية أو عالمية أو إنشاء شركاتهم الخاصة فى المجالات التكنولوجية ذات العائد المرتفع.
هذا يعنى:
• التوسع فى التخصصات التكنولوجية.
• تدريس مواد من العلوم الإنسانية لهؤلاء الطلبة حتى تكون لديهم «البوصلة» التى سيتحركون بها لاحقًا.
• تدريس بعض المواد التكنولوجية، خاصة المتعلقة بالذكاء الاصطناعى، فى أقسام العلوم الإنسانية. فنحن نريد مؤرخًا يستخدم الذكاء الاصطناعى فى عمله، والجغرافى كذلك، إلخ.
• أن تعود الأرباح إلى الجامعة وتساهم فى تطويرها.
• أن يعرف الطلبة منذ البداية أنهم لا يشترون الشهادة بالمصروفات؛ أى إن الطالب قد يدفع مصروفات باهظة ويرسب إذا لم يهتم بدراسته. أما جعل الجامعة مجرد «بيزنس» يمنح شهادة جوفاء، فهذا يضر بالطالب والمجتمع معًا.
• أن تكون ترقية الأساتذة فى الفترة الحالية على الأقل مرتبطة أكثر بالكفاءة فى التدريس.
وهذا يقودنا إلى نقطة مهمة متعلقة بالأستاذ الجامعى.
• • •
تعاملنا الخاطئ مع مثلث التعليم
يمكن النظر إلى العملية التعليمية كأنها مثلث أضلاعه: المادة العلمية، التكنولوجيا المستخدمة فى التدريس من أجهزة ومعدات وما شابه، والأستاذ الجامعى وكفاءته. كيف نتعامل مع هذا المثلث؟
• المواد العلمية: نأتى بها إما من جامعات فى الخارج أو عن طريق البحث على الإنترنت. وفى حالات نادرة يقوم الأستاذ أو مجموعة أساتذة بجمع وترتيب وتأليف المادة العلمية، وهذه الحالة النادرة نجدها أكثر فى التخصصات الإنسانية. أما المواد المنقولة من الخارج فيجب «تمصيرها»، ولا أعنى بذلك مجرد نقلها إلى العربية، بل وضعها فى سياق ما يمتلكه الطالب من معلومات مسبقة. فإن كان الطلبة عندنا يمتلكون نفس المعلومات، نأخذ المادة كما هى، وإلا نضيف ما ينقصهم.
• التكنولوجيا المستخدمة فى التعليم: مثل الشاشات الكبيرة أو البرمجيات التعليمية، وهى غالبًا ما تكلف الجامعة الكثير من الأموال، وتُستخدم أيضًا فى حملات التسويق عندما تعرض الجامعة صورًا لتلك الشاشات وما شابه.
• الأستاذ الجامعى: هو أضعف ضلع فى المثلث والأقل من حيث الاهتمام. وهذا ليس قدحًا فى مستواه العلمى، لكن الأستاذ الذى يحتاج إلى التدريس فى عدة جامعات فى الوقت نفسه، أو القيام بعدة أعمال ليكسب قوت يومه وأسرته، لا يُنتظر منه أبحاث علمية رصينة، إذ لا وقت لذلك. لذا، من الأفضل زيادة مرتبات الأساتذة عبر تقليل الإنفاق قليلًا على بند تكنولوجيا التعليم، مع مطالبتهم بتحسين كفاءتهم فى التدريس وجودة المادة العلمية.
بلادنا فى أمسّ الحاجة إلى تخريج طلبة نابهين أكثر من حاجتها إلى نشر بحوث علمية فى مجلات مرموقة، على الأقل فى الوقت الراهن، وقد يتغير ذلك مستقبلًا. طبعًا هذا رأيى الشخصى بعد التأمل والتفكر فى الموقف الحالى، لكنه يظل خاضعًا للنقاش.
مثلث التعليم هذا يتمحور حول أهم منتج للجامعة: الطالب.
• • •
الطلبة فى عصرنا هذا
أنواع الطلبة أربعة من حيث المستوى الدراسى والمالى:
• طالب متفوق ولديه المال، فهذا يأخذ منحة كبيرة ويدفع جزءًا يسيرًا من المصروفات.
• طالب متفوق وليس لديه المال، فيأخذ منحة كاملة.
• طالب غير متفوق ولديه المال، فيدفع المصروفات كاملة.
• طالب غير متفوق وليس عنده المال، فهنا يجب تشجيعه على الالتحاق بالتعليم الفنى وما شابه. لا يوجد طالب فاشل، لكن هناك طالبا لم يجد التخصص الذى يبدع فيه. ما زلنا نعشق «المنظرة» حتى فى التخصصات، فالأهل يفضلون أن يكون ابنهم مهندسًا فاشلًا على أن يكون كهربائيًا عبقريًا. نحتاج من خبراء النفس والاجتماع دراسة هذه الظاهرة ومحاولة إيجاد حل لها.
• • •
بعد كل ما ذكرناه عن الجامعات، اقتراحات للنهوض بالجامعات
• أيا كان التخصص، يجب تدريس التفكير النقدى للطلبة وتشجيعهم على تنمية تلك المهارة فى جميع المواد الدراسية.
• تعليم الطلبة كيفية التعلم، فالعلم يتقدم بخطى سريعة، وما يتعلمه الطالب فى الجامعة قد يصبح قديمًا بعد سنوات قليلة، وأحيانًا بعد أشهر. فكيف سيتعلم الجديد إذا لم يمتلك مهارة التعلم الذاتى؟
• على الشركات أن تعين الطلبة بحسب مستواهم فى المهارات التى تحتاجها، لا بحسب درجات الطالب فى الجامعة. فقد يكون الطالب متفوقًا فى مواد قليلة لكنها تحتوى على كل المهارات المطلوبة.
• حيث إننا نتكلم عن الدرجات لدى اقتراح: عند تخرج الطالب، يأخذ بيانًا بدرجاته يحتوى على تقديره فى كل مادة درسها. أقترح وضع متوسط تقدير دفعته فى تلك المادة بجانب تقديره، لأن الطالب الذى يحصل على جيد جدًا فى مادة ومتوسط دفعته جيد، أفضل من طالب حصل على امتياز ومتوسط دفعته امتياز.
• مع ازدياد عدد الطلبة المتخرجين من المدارس، نزيد عدد الجامعات. لكن هل نزيد عدد الأساتذة أيضًا؟ وإلا فمن سيقوم بالتدريس؟ راجع ما قلناه عن الأستاذ الذى يعمل فى عدة جامعات ليكسب قوت أسرته.
إذا أردنا السيادة فى المستقبل وتقليل الاعتماد على الآخرين فى احتياجاتنا العلمية والتكنولوجية، فعلينا الاهتمام بالتعليم. فالتعليم أمن قومى.