السياسات الإقليمية لمصر - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 8:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السياسات الإقليمية لمصر

نشر فى : السبت 20 فبراير 2021 - 9:15 م | آخر تحديث : السبت 20 فبراير 2021 - 9:15 م

العنوان بصيغة الجمع لأن مصر تنتمى إلى أقاليم متعددة من ناحية، ثم لأن لها سياسات مختلفة حتى فى داخل الإقليم الواحد. يوجد رأى هو أن مصر تتمسك بالاهتمام بأقاليم بعينها حددتها الفترة الناصرية فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، وأنه لا حتمية فى هذه الأقاليم. بالفعل، لا توجد حتمية فى هذه الأقاليم أو فى أى مما يتعلق بسلوك المجتمعات البشرية. غير أنه توجد محددات لسلوك هذه التجمعات ومنها مصر. فى التعريفات الحديثة للأقاليم فى علم العلاقات الدولية البعد الجغرافى ليس ضروريا. الخصائصُ التى تشترك فيها مجموعة من الدول مثل التقدم الاقتصادى، أو الاختيارات السياسية، أو السعى إلى التنمية، أو الانتماء الدينى، والتى تكون أساسا لسلوك تتفق عليه، كافيةٌ لكى تُعرَفَ هذه الدول على أنها تشكل إقليما. ولكن الإقليم فى هذا التعريف اختيار. تختار دولة ما أو لا تختار أن تكون فى الإقليم الذى يجمع الدول المتقدمة فى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، أو فى الإقليم الذى يجمع الدول التى لم تنحز إلى أى من معسكرى الحرب الباردة فى حركة عدم الانحياز، أو الدول النامية فى مجموعة السبعة والسبعين، أو الدول ذات أغلبية السكان المسلمة فى منظمة التعاون الإسلامى. ولكن الأقاليم التى لا فكاك منها هى تلك التى تحددها الجغرافيا. فى حالة مصر، العالم العربى وإفريقيا إقليمان طبيعيان تحددهما الجغرافيا، ولم تحددهما الفترة الناصرية. تفاعلت مصر الحديثة والإقليمان منذ ما قبل 1952 بدرجات وأشكال مختلفة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
***
فى الأشهر والأسابيع الأخيرة، تحركت مصر فى الإقليم العربى بالذات وبدرجة أقل فى الإقليم الإفريقى بسياسات تميزها عن غيرها من الدول الواقعة فى الإقليمين. فى الإقليم العربى تحركت مصر بشأن القضية التى نالت جل النشاط الخارجى المصرى فى ثلاثة أرباع القرن الماضى، ألا وهى القضية الفلسطينية. يبدو أن الرأى فى مصر كان أنها أنفقت الكثير من مواردها السياسية والمعنوية فى الدفاع عن القضية الفلسطينية، باعتبار تأثيرها المباشر على مصالح مصر ووضعها فى الإقليم، وبما معناه أن الاستهتار بالقضية والتفريط فيها، فضلا عن ظلمه للشعب الفلسطينى، هو استهتار بمصالح مصر نفسها وتفريط فيها. هكذا اجتمعت مصر والأردن ونوهتا بأنهما الأقرب إلى القضية الفلسطينية، موحيتين بأنهما أقرب إليها من دول عربية أخرى كانت لها مقارباتها المتفردة فى نصف السنة الأخيرة. اجتمع البلدان ودعيا إلى اجتماع دورة طارئة لمجلس جامعة الدول العربية وقدما إليه مشروع قرار قوى فى صيغته يستند إلى المبادرة العربية للسلام الصادرة عن قمة بيروت فى سنة 2002، وصدر القرار بإجماع الدول الأعضاء فى الجامعة، بما فى ذلك تلك التى استقبلت وفودا من المستوطنات الإسرائيلية غير المشروعة فى الضفة الغربية لنهر الأردن، وهو ما معناه أن مصر، ومعها الأردن، قد استعادت زمام المبادرة فى شأن أى جهود قد تنشأ لتسوية القضية الفلسطينية. وقد يكون مفيدا الإشارة إلى أن البلدين قد دعما مبادرتهما بجهد أقاليمى إذ ضما إليهما فى موقفهما من تسوية القضية الفلسطينية كلا من ألمانيا وفرنسا وعقد وزراء خارجية الدول الأربع اجتماعين بهذا الشأن فى الشهور الستة الأخيرة. تواكب ما سبق مع رعاية المصالحة بين الفصائل الفلسطينية المنقسمة على نفسها، وتوصلت هذه الفصائل فى القاهرة إلى اتفاق بشأن خارطة طريق لإعادة توحيد المؤسسات الفلسطينية وتجديدها. هذه أولى السياسات الإقليمية المصرية المرتسمة فى الأسابيع الأخيرة والتى تميزها عن سياسات دول أخرى فى الإقليم.
مصر والأردن هما أيضا طرفان فى آلية للتنسيق الثلاثى مع العراق بدأت أعمالها فى مارس 2019 فى القاهرة ثم انعقدت قمة لها فى أغسطس 2020 فى عمان واجتماعان لوزراء خارجية الدول الثلاث فى أكتوبر 2020 وفى شهر فبراير الجارى. الآلية ترتيب غير رسمى بمعنى أنه لا يستند إلى أى اتفاقية قانونية دولية بعد، وهذه من المقاربات المألوفة فى التنظيم الدولى الإقليمى ودون الإقليمى، والأعضاء فيها لم يحددوا مجالات للتنسيق بل تركوها مفتوحة وهم على ما يبدو ركزوا فى اجتماع الوزراء فى أكتوبر الماضى على التنسيق فى المجالات الاقتصادية إلا أن هذا لم يمنع وزير الخارجية الأردنى من التأكيد بعد الاجتماع على وجود رؤى مشتركة بين الدول الثلاث مشيرا إلى أن «القضية الفلسطينية هى قضيتنا المركزية الأولى وهى لا تزال وستبقى محل اهتمام وتركيز تام». على ضوء ذلك لا يبدو من الشطحات اعتبار أنه وإن لم يكن من الداعين إلى اجتماع الدورة الطارئة لمجلس جامعة الدول العربية المشار إليه أعلاه، فإن العراق يشارك مصر والأردن موقفهما من القضية وتسويتها. هذا تعزيز للتمايز فى المقاربات الإقليمية.
***
فى شأن قطر، انطبق على مصر ما اتفقت عليه الدول المتخاصمة الأعضاء فى مجلس التعاون الخليجى بل ووقعت على البيان الصادر عن الدول الأعضاء فى المجلس، وهو ما كان مستغربا فى حينه، إلا أن مصر وبعد أن أعادت علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، أعلنت على لسان وزير خارجيتها أن البلدين فى سبيلهما إلى تحديد مواعيد لانعقاد لجان ثنائية يتباحثان فيها عن الموضوعات الخاصة بهما. هذا تعبير آخر عن سياسة مصرية فى الإقليم بشأن بلد بعينه تتمايز عن سياسات غيرها وتركز على ما يهمها وعلى مصالحها.
فى ليبيا، تطورت السياسة المصرية تطورا ملحوظا فى الأشهر الأخيرة. لفترة امتدت، قطعت مصر كل علاقة مع حكومة الوفاق فى طرابلس واختارت مساندة حكومة طبرق ومحاولة المشير خليفة حفتر غير المحسوبة لإنهاء الصراع بين الشرق والغرب عسكريا أو على الأقل عدم الاعتراض علانيةً عليها. لم يفلح المشير فى مسعاه وأى تحليل كالمعروض فى هذه المساحة من جريدتنا الغراء فى يناير من العام الماضى كان ليبين أنه لا يمكن أن يفلح فيه. حصار المشير حفتر لطرابلس والمساندة التى لقيها من البعض كانا من أسباب اجتذاب تركيا إلى ليبيا فنشأت بذلك مشكلةٌ لمصر كانت هى فى غنى عنها. دقائق اتخاذ القرار المصرى بموازنة علاقاتها بطرفى النزاع الليبى غير معروفة غير أنه قرار صائب. فى نوفمبر الماضى استقبلت القاهرة وزير الداخلية فى حكومة الوفاق، الذى كان البعض قد عدَّه نصيرا لا علاج له لتركيا وللإخوان المسلمين، وهى فى الأسابيع الأخيرة أرسلت وفدا إلى طرابلس لبحث استئناف العلاقات الدبلوماسية معها، ثم اجتمع وزير الخارجية المصرية بوزير خارجية حكومة الوفاق بمناسبة الدورة الطارئة لمجلس جامعة الدول العربية، ومن بعد ذلك استأنفت مصر العلاقات الدبلوماسية فعلا مع حكومة الوفاق وأرسلت وفدا آخر إلى طرابلس ليفتح سفارتها فيها اجتمع بنفس وزير الداخلية الليبية. فى خلال ذلك استضافت مصر فى مدينة الغردقة محادثات المسار الدستورى ومحادثات عسكرية أمنية شارك فيها الفريقان الليبيان الباحثان عن تسوية لنزاعاتهما. وعندما انتخب اللقاء السياسى الليبى فى جنيف فى الأسبوع الأول من شهر فبراير الجارى أعضاء المجلس الرئاسى ورئيس حكومة الوحدة الانتقالية رحبت مصر بنتائج الانتخاب وأعلنت تأييدها للخطة المؤدية لإجراء انتخابات عامة لدى نهاية هذا العام، ثم زار رئيس الحكومة الجديدة القاهرة واستقبله رئيس الجمهورية الذى كرر التعبير عن تأييد مصر لخطة التسوية فى ليبيا. ما زالت هناك شكوك تحوم حول نجاح خطة التسوية والمصالحة الليبية، وثمة من يقولون مثلا إن لا اتفاق فى الرؤى يجمع بين أعضاء المجلس الرئاسى الثلاثة وهو ما من شأنه أن يجعل تنفيذ التسوية وإجراء الانتخابات صعبا. ومع ذلك، فإن تواصل مصر مع كل أطراف النزاع الليبى هو السياسة الصحيحة التى تبعد عنها مخاطر التدخلات الخارجية والتى ربما مكنتها من التوسط والتوفيق بين أطراف النزاع. المكانة التى يكتسبها الوسيط والموفق لا تحتاج إلى بيان.
فى إفريقيا، لا يلوح فى الأفق حلٌ حتى الآن للنزاع حول سد النهضة، ولكن على الرغم من الخلاف المستمر حول حلايب وشلاتين يبدو أن العلاقات تزداد وثوقا مع السودان الجديد، ورئيس الجمهورية زار جنوب السودان فى نوفمبر الماضى. أى علاقات وثيقة مع دول قارتنا الإفريقية، وليس فقط مع دول حوض النيل، من شأنها أن تدعم موقف مصر فى النزاع المذكور حول مياه النهر الخالد. لذلك بدا غريبا، والعهدة على مكتب الناطق باسم وزارة الخارجية، أن يتحدث وزير الخارجية فى الأسبوع الماضى مع وزير خارجية فنلندا عن مسألة سد النهضة وألا يفعل ذلك مع وزير خارجية بوركينا فاسو الذى زاره فى نفس اليوم.
***
تحركت مصر مؤخرا فى إقليم جغرافى كانت قد التفتت عنه منذ سنة 1952، ألا وهو الإقليم المتوسطى. فضلا عن الجغرافيا، البحر المتوسط جزء من تاريخ مصر القديم والحديث. صحيح أن مصر عضو فى الاتحاد من أجل المتوسط ولكن هذا تنظيم دولى أوروبى متوسطى متعدد الأطراف. التحرك فى المنظمات الدولية، عالمية الطابع أو الإقليمية، يختلف عن التعامل الثنائى مع الدول الأعضاء فى نفس هذه المنظمات. غير أن التحرك المصرى هو فى الحوض الشرقى من البحر المتوسط وحده، وهو فضلا عن الغاز الطبيعى فى قاع هذا الحوض يبدو معنيا أساسا بمواجهة السياسة التركية، وإن كان الاجتماع المنعقد فى الأسبوع الثانى من الشهر الجارى فى أثينا لوزراء خارجية مصر واليونان وقبرص قد تطرق إلى موضوعات أخرى ونوه بضرورة تسوية «الصراع الفلسطينى الإسرائيلى» على أساس حل الدولتين وغيره من الشروط الواردة فى القرار الذى تقدمت به مصر والأردن واعتمدته الدورة الطارئة لمجلس جامعة الدول العربية. سياسة متوسطية شاملة لكل الدول الواقعة على البحر المتوسط، بدون تقسيمه إلى حوضين، ذات أبعادٍ خارجيةٍ واقتصاديةٍ وثقافيةٍ، مطلوبة.
الدول متوسطة القوة مصالحها فى الأقاليم التى تقع فيها. لذلك فإن السياسات الإقليمية هى التى تحمى هذه المصالح وتعززها، كما أنها هى التى تدعم مكانتها فى النظام الدولى الأشمل.
من شأن الاستمرار فى التوجهات الأخيرة فى السياسات الإقليمية لمصر وتعميقها أن تدعم مكانة مصر وأن تعزز تحقيق مصالحها.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات