عن السلاح والسلاسل فى رقاب الأمهات - أهداف سويف - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 2:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن السلاح والسلاسل فى رقاب الأمهات

نشر فى : الأربعاء 20 مارس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 20 مارس 2013 - 8:00 ص

فى الخارج، فى رحلة عمل. أتحدث عن الثورة، أعرض سلايدات من جرافيتى الثورة ومقاطع من الأفلام. ممباى، كلكتا، دلهى، سيدنى، أديليد، واشنطن…. يتجاوب الناس فى كل مكان معنا، مع مصر، يسألون عن أحوالنا بلهفة، يقدمون النصائح، يسألون كيف يستطيعون تقديم العون؟ فى برنامج تليفزيونى (فى سيدنى) مع جمهور حى، تسأل شابة ــ تعرف نفسها بأنها مصرية قبطية ــ تسأل السفير الأمريكى لماذا ترسل أمريكا السلاح إلى مصر الآن؟ يطلب منى مقدم البرنامج أن أجيب، فأرد بدهشة «كيف لى أن أجيب؟ السؤال موجه إلى السفير.» (يهنئنى كثيرون بعدها على أنى تفاديت إعطاء السفير فرصة الهروب من السؤال ــ وفى الحقيقة لم أكن أدرى أنى أفعل هذا؛ كنت فقط لا أريد الإجابة عن سؤال موجه لغيرى). يجيب السفير، مضطرا، أن على الولايات المتحدة أن تساعد مصر على حماية نفسها من الغزو! أسأله من أين سيأتينا الغزو؟ وهل القنابل المسيلة للدموع التى تريد حكومتنا استلامها فى ابريل أيضا مضادة للغزو؟ يتدخل وزير الخارجية الأسترالى ليؤكد التزام أستراليا بحماية الأقليات فى مصر ويعضد كلامه زعيم المعارضة فأذكر الجمهور بأن «حماية الأقليات» كانت دائما من العناوين المهمة التى عَنوَن بها الاستعمار تدخله فى شئون بلادنا، وتصر الشابة على أخذ الكلمة مرة جديدة لتعلن للساسة الأستراليين والأمريكيين أن أسلحتهم تقتل المسيحيين والمسلمين على السواء وأن أقباط مصر لا يريدون حمايتهم، بل هى تريد من العالم فقط أن يكف عن تسليح المنطقة.

 

حين ينتهى التصوير أسمع نداءات باسمى، شباب فى الصفوف العليا. ينزلون إلىّ: شباب من مصر وفلسطين ولبنان. شباب متحمس متوقد ضاحك جميل. نلتقط الصور ونعطل الاستوديو الذى من المفروض أن يغلق. الشباب فى كل مكان زى الورد. وشغّال. بمختلف الطرق وفى مختلف المجالات شغال وبيحاول يصنع دنيا جديدة.

 

أما أنا فسفر ومطارات وإجراءات أمنية وتغيير الساعة ثم تغييرها ولم الحقيبة وفك الحقيبة وبلاد برد وبلاد حر وبلاد مطر وكلام وكلام وكلام حتى يئس جسدى عن فهم ما يجرى فيه أو حوله وصار يمشى على أوتوماتيك، ينفذ المطلوب، وإن لم يطلب منه شىء لمدة خمس دقائق يطفئ الأنوار ويغلق الدكانة فأجدنى أفيق على تعليق يوجه لى من جارٍ فى قاعة المحاضرات أو من رزعة رأسى فى شباك قطار.

 

وبعد كل الحديث والحديث والتساؤلات والنظريات والتكهنات والطروحات والانتقادات والتطمينات والمناقشات ما الذى يبقى معى؟ ما الذى يأتينى حين أجد عينيى مفتوحتين فى الظلام وأجدنى فى سرير غريب فى بلد غريب ولوحة الموبايل تخبرنى أن الساعة فى مصر التاسعة بينما ساعة الفندق تقول إنها الثالثة صباحا؟ فى ليالى الأسابيع الماضية كان يأتينى صوت امرأة. تقول لى بهدوء - بصوت من تشاركنى فى معلومة توصلت إليها للتو بعد دقائق من الصمت وقفنا فيها جنبا إلى جنب ـ تقول بنبرة لطيفة متحيرة «المشكلة إنى مش عارفة أعيش». تفكر فيما قالته، وتعود لتحاول شرحه، وصفه، «يعنى مثلا أطبخ لهم صينية مكرونة بالبشاميل، وانا باطلعها من الفرن أبقى كل اللى فى مخى قد إيه هو كان بيحبها. وكان لازم يحط الكتشب عليها. يعنى البيت لازم يكون فيه كاتشب». تصمت. وتعود، «والله أحط المعلقة فى بقى كده، أبقى زى ماكون أستغفر الله باكل سم». صورته فى سلسلة حول رقبتها. كم من الأمهات اليوم حول رقبتها مثل هذه السلسلة؟

 

ابنها كان عنده اتنين وعشرين سنة. اتخرج من تجارة القاهرة. «ماحسيتش بيه، ماتعبتش معاه يوم. ولا دروس خصوصى ولا أى حاجة. بس بعد كل امتحان «نجحت يا ماما»، وكان يفرح وينط وإيده تجيب رِيَش المروحة اللى فى السقف». اتخرج الولد وراح يعمل الجيش بتاعه. عمل الخمستاشر يوم اللى بيعملوهم فى الكلية وبعدين راح المعسكر. قال لهم - لها ولأبيه ولخالته ولأخيه الصغير ــ ألا يقلقوا، فسيرجع لهم بعد أسبوعين. كان هذا فى يناير ٢٠١٢. وبعد ــ مش أسبوعين، عشرة أيام فقط ــ جاءها تليفون من أحد زملائه يطلب منها أن تذهب إلى مستشفى القبة لأن ابنها تعبان شوية. أخدت أبوه وخاله وذهبت إلى المستشفى ففتحوا لها التلاجة لتتعرف عليه. أعطوها تقريرا بأنه توفى بسبب خلل فى صمام فى القلب. وغير كده مالهاش حاجة عندهم. دفنت ابنها. وبس خلاص خلصت الحكاية.

 

بس المشكلة إنها مش عارفة تعيش. المشكلة إنها طول الوقت دمعتها عايزه تنزل وبتحوشها عشان خاطر أبوه. أبوه أسطى محارة ماهر، بس دلوقتى بيدوخ إذا وقف على سقالة. بس ساعات لما بتكون فى المطبخ واقفة تغلى اللبن وضهرها للباب بتسيب نفسها تبكى. عشان هى كانت بتقف كده تعمل له النسكافيه. المشكلة - «ده أنا كنت فرحانة، وخايفة، يعنى كنت أقول بشويش كده، أهمس: ابنى هيبقى ظابط. زى ماكون والله مستكتراها على نفسى. ربيته. اتنين وعشرين سنة واتخرج وهيبقى ظابط».

 

نزلت التحرير لأول مرة لأنها سمعت والدة محمد الشافعى فى التليفزيون فى الليلة السابقة تطلب أن يخرج ابنها من التحرير فى جنازة كبيرة مثل جنازة جيكا - «لقيتنى باكلمها وانا لوحدى فى الشقة. قلتلها أنا جايّالك. وجيت.» وأنا، أيضا، نزلت من المطار على الميدان لجنازة محمد الشافعى. وتأخر الجثمان فوقف الكل إلى جوار جامع عمر مكرم ينتظر. فالتقيتها. سيدة أربعينية، حجابها وردى اللون ووجهها سمح. المشكلة، قالت لى، إنها مش عارفة تعيش، لأنه - «هو بقاله دلوقتى أربعتاشر شهر، بس هو كل ما الوقت بيفوت كل ما بيوحشنى أكتر».

 

كنا نسمع أن الجيش بيعمل حسابه إنه بيفقد بين ٢٠ و٢٥٪ من المجندين فى التدريب. هل هذا يصدق؟ طيب مش دول شهداء برضه؟ فى هذه الليالى الغريبة، وبعد أحاديث السلاح وأحاديث السياسة وأحاديث وأحاديث.. ما أراه فى ليل الغربة هو منظومة ضخمة تستهدف شبابنا: تجوعهم، وتجَهِّلهم، وتفقرهم، وتحبطهم، وإن لم ينفع كل هذا، تقتلهم.

 

لهذا تستمر الثورة: ثورة الشباب فى مواجهة النظام العجوز القاتل.

التعليقات