ليبيا... العيادة فى برلين والطبيب روسى - صحافة عربية - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 10:39 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ليبيا... العيادة فى برلين والطبيب روسى

نشر فى : الثلاثاء 21 يناير 2020 - 10:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 21 يناير 2020 - 10:40 م

نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب غسان شربل... جاء فيه ما يلى:

لا ثروة ليبيا النفطيَة تسمحُ بتجاهلِها، ولا موقعها الجغرافى يسمحُ، خصوصا فى زمن «قوارب الموت» والهجرات الواسعة. وكانَ يمكنُ تركُ ليبيا لمصيرها لو أنَ خطرَها يقتصر على خريطتها. لكن الواضح هو أنَ التشرذم المسلح فى ليبيا ينذر بتحويلها مصدرَ خطرٍ دائمٍ على جيرانها، وربما على بلدان أبعد.
ولا مبالغة فى القول إنَ ليبيا بلاد سيئة الحظ. ما إن استراحت من المستبد المريض الذى جَثَمَ 4 عقودٍ على صدرها حتى وقعتْ فى قبضة الميليشيات. وأظهرتِ التجارب أنَ وجودَ الميليشيات هو البوابة الذهبية إلى حروب لا تنتهى تستورد التدخلات والوصايات. وأدَت بعض الوصايات المبكرة إلى تعثُرِ مشروع طُرح فى 2012، وكان يدعو إلى جمع سلاح الميليشيات. وقد تذرَع رعاة المجموعات المسلحة بعبارات من نوع أن «الثوار لا يلقون السلاح». وأدَى التمزق الليبى أحيانا إلى ابتعاد بعض الدول عنه كما حدث مع الولايات المتحدة بعد مقتل سفيرها هناك فى 2012، وراح الاهتمام الأمريكى يختصر بغارات عند الضرورة على مواقع لـ«القاعدة» أو «داعش» فى هذا البلد.
تفكُكُ الدولة الليبية لا يعنيها وحدها. يقلق بالتأكيد الدول المحيطة بها، وهى مصر والجزائر والسودان وتونس وتشاد والنيجر. يضاعف من القلق أنَ غياب الرقابة على الحدود يتيح تحرك الإرهابيين والعصابات. ويمكن أنْ نضيفَ إلى ذلك أنَ لليبيا سواحلَ على المتوسط يبلغ طولها 1850 كيلومترا ما يقلق أوروبا القريبة، خصوصا فى خاصرتها الإيطالية. وأظهرت السنوات القليلة الماضية أن السواحل الليبية هى البوابة الثانية التى يعبرها المهاجرون الأفارقة إضافة إلى تركيا. وهكذا يصبح الاستقرار الليبى حاجة ليبية وإقليمية ودولية، خصوصا بعد المعلومات عن مقاتلين جوَالين يرون فى الساحة الليبية بديلا للساحة السورية التى يكاد التدخل الروسى يستكمل إقفالها فى وجوههم.
فى هذا السياق يرتدى انعقاد مؤتمر برلين حول ليبيا أهمية استثنائية، لا سيما بعدما بَدَتِ الساحة الليبية مرشحة للانزلاق إلى وضع شبيهٍ بما كانت عليه الساحة السورية، أى الغرق فى تمزُقات داخلية عنيفة تواكبها تدخلات عسكرية وسياسية خارجية تزيدها اضطراما. وليس ثمة شك فى أنَ التدخل التركى الأخير السافر فى ليبيا دقَ جرس الإنذار فى أكثر من عاصمة أوروبية. فقبل أسابيع فقط لم يتردد سياسيون وخبراء فى اعتبار الوضع الليبى دليلا على انحسار الدور الأوروبى، وعجز الدول البارزة فى القارة القديمة عن التفاهم على تصور موحد لطريقة التعامل مع هذا الملف الذى يعنيها سياسيا واقتصاديا وأمنيا وسكانيا.
ذهب رجب طيب إردوغان بعيدا فى تدخله فى ليبيا. تفاهمٌ أمنيٌ مع حكومة فايز السراج المقيمة فى طرابلس، واتفاقٌ لتحديد الحدود البحرية سينطلق منه للمنافسة على ثروات المتوسط النفطية والغازية. لم يكتفِ إردوغان بنبش التاريخ «العثمانى» لليبيا والدول المجاورة والتعهد بالدفاع عن «أحفاد الفاتحين العثمانيين» بل وجَه تهديدات مباشرة إلى المشير خليفة حفتر الذى حرَك قواته لاستعادة طرابلس من الميليشيات متسلحا بتعاطف إماراتى ومصرى مُعلَن وتعاطف فرنسى خجول. ولأنَ التدخل العسكرى باتَ من قواعد التخاطب فى هذا الجزء من العالم أرسلَ إردوغان إلى ليبيا ضباطا ومستشارين ومدربين، فضلا على قوات سورية موالية لتركيا.
رجل آخر لم ينسَ ليبيا. إنَه فلاديمير بوتين. كان فى موقع رئيس الوزراء حين سمحت روسيا بتمرير قرار مجلس الأمن الذى استخدمه حلف «الناتو» لشنَ عملية عسكرية أدَت عمليا إلى إسقاطِ معمر القذافى وبشراكة فرنسيةــ بريطانية. وفى تلك العملية أُهين السلاح السوفياتى والروسى كما أُهين سابقا فى عراق صدام حسين. لقد حرك «الناتو» بيادقَه إلى موقع كان صديقا لموسكو، وليس من عادة بوتين أن ينسى.
مستفيدا من الابتعاد الأميركى الذى ضاعفه الانشغال بالأزمة المتصاعدة مع إيران، ومن افتراق الحسابات بين فرنسا وإيطاليا وألمانيا، ومن التدخل التركى الذى يعطيه قدرة التأثير على موقف حكومة السراج، تقدَم بوتين للعب دور راعى السلام فى ليبيا. هكذا استدعت موسكو السراج وحفتر لتوقيع اتفاق وقف النار. مغادرة حفتر من دون توقيع لم تحلْ دون مخاطبته بوتين بـ«الصديق العزيز» وإبداء الاستعداد لمواصلة الرحلة معه. ولأنَ أسلوب روسيا الحالية فى حل الأزمات يقوم على إطلاق عملية على مراحل، ووفق مسارات سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية وإنسانية، حاول بوتين نقلَ خبرته السورية إلى الملعب الليبى.
فى هذا الوقت كان الدكتور غسان سلامة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثة المنظمة الدولية إلى ليبيا يقلِب بين يديه جمر الميليشيات والتدخلات حالما بالتوصل إلى «ترميم للموقف الدولى من المسألة الليبية». واضح أنَ سلامة يراهن على أنَ حضور المتدخلين تحت سقف واحد فى برلين قد يساعد على ترميم مظلة دولية لضبط التدخلات على أن يستمر فى موازاتها حوار ليبيــ ليبى على المسارات الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وهكذا أدخل سلامة ليبيا إلى غرفة «العناية الفائقة» فى برلين آملا فى استجماع إرادة أوروبية ودولية لإنقاذها من الميليشيات والتدخلات والويلات.
إنَه أسلوب بوتين الذى نقل الأزمة السورية من بيان جنيف وهيئة حكم انتقالى إلى اجتماعات فيينا وتغيير المرجعيات وإطلاق عملية سياسية. وقد حملت الصيغ المتداولة فى مؤتمر برلين الكثير من هذه التوجهات. واضح أنَ الطبيب الروسى يملك القدرة على التحدُث إلى جميع المعنيين بالمريض الليبى الذى اقتيد إلى العيادة فى برلين. وهو طبيبٌ مستعدٌ لتطويع أدوار الآخرين وإشراكهم من دون أنْ ينسى الأمم المتحدة. والسؤال هو هل يستيقظ الليبيون قبل فوات الأوان؟

الشرق الأوسط ــ لندن

التعليقات