تختنق بذيلها - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 2:26 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تختنق بذيلها

نشر فى : الخميس 21 فبراير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 21 فبراير 2013 - 8:00 ص

فى ذهنى تتعلق أسئلة عديدة حول ظواهر محيرة فى الحياة وبين الأحياء، ومنها ظاهرة ابتلاع أفعى الجرذان الأمريكية الشمالية لذيلها، والتى تم تسجيل أكثر من واقعة لها وتوثيقها علميا، وأشهرها واحدة فى أحد المراكز البحثية حاولت ابتلاع ذيلها مرتين، فأُنقِذت فى الأولى لكنها ماتت فى الثانية، كما وُجِدت أخرى فى البرية ميتة بالاختناق بعد ابتلاع ذيلها حتى ثُلثى جسمها.

 

كائن يلتهم جزءا من جسمه ويغص به فيختنق ويموت، هذا شىء غريب، وأعجب ما فيه هو عدم تعرُّفه على جزء مهم من ذاته، فالذيل لدى الأفاعى ليس جزءا طرفيا كذيول الطيور يمكن نتف ريشها فيعود للنمو، أو كذيول الدواب يمكن بترها ويظل أصحابها أحياء. فذيول الأفاعى تحتوى على أعضاء حيوية لا يمكن الاستغناء عنها، كما تشارك بدور أساسى فى التوجيه والحركة. فكيف ترتكب أفاعى الجرذان الشمالية ذلك الخطأ القاتل؟!

 

مكثت طويلا أبحث عن إجابة قاطعة لهذا السؤال دون أن أهتدى لذلك، وإن كنت كونت شذرات يمكن أن تُشكِّل مشروع إجابة يتكون من شقين، أولهما يتعلق بخلل فى جهاز الإدراك نتيجة لعطب ما فى المخ يجعل هذه الحية لا تتعرف على ذيلها عندما تستدير على نفسها وترصده متحركا فتحسبه فريسة تسارع بالتهامها، والشق الثانى يتعلق بعارضٍ ما يُلِم بالذيل كالألم أو الخدر يدفع الأفعى لابتلاعه. ربما!؟

 

هذه المسألة ضمن مسائل أخرى مشابهة لا أتعامل معها كمجرد معضلات فى عالم الحيوان، فكونى مؤمنا يقينا بوحدة الخلق ووحدانية الخالق، أراها معضلات فى دنيا الحياة وعالم الأحياء عموما، ومن ثم تلفتنى إلى ما يُناظرها فى عالم البشر دون أن يحط ذلك أبدا من شأن الإنسان، فهى بالفعل أمم أمثالنا، وأكثر من ذلك تُمثِّل فى قناعتى نماذج صافية للسلوك الفطرى تُعرِّى انحراف الإنسان عن سوية الفطرة، وعندما تصدر عنها شذوذات سلوكية، فإن تفسيرها يشكل قاعدة أولية لتفسير شذوذات مُشابهة عند البشر.

 

والتشابه أراه واردا الآن، فى مواجهة انسداد الأفق السياسى والاجتماعى الخانق فى مصر تحت حكم عُصبة المُهيمنين من الإخوان حاليا، وهى عصبة شديدة الخطر على مصر كما على نفسها وجماعتها إن أصرَّت على ما هى عليه من سلوك مندفع، يُناظر ابتلاع حية الفئران الشمالية لذيلها ويُنذر بالوبال، لا لنفسها وجماعتها فحسب، بل للأمة كلها، ويذكرنا بمآسى كل الجماعات السياسية التى استخدمت الدين كقناع وسيف فى كل العصور ومن كل متعصبى ومستثمرى كل الديانات فى تاريخ الإنسان البعيد والقريب، هذا هو درس التراث المر عندنا وعند غيرنا.

 

مصر المحكومة بهذا الفريق من الإخوان تختنق الآن ببعض ذاتها، ومظاهر هذا الاختناق عديدة ومؤلمة، عنف وعنف مضاد، ونزوح أليم أو سعى للنزوح لمن فقدوا الأمل فى وطن عادل يرعى الحريات ويصون الحرمات، فوضى وعطالة وبطالة، وغياب لدولة العدالة والقانون والمؤسسات والمنطق، موات اقتصادى وتمزيق للنسيج الوطنى، ومخاوف من سيناريوهات مستقبلية مرعبة ليست بعيدة بل حتف الأنف، ثورة جياع لا تُبقى ولا تذر، مواجهات عنيفة عِوضا عن التنافس السياسى السلمى، ودولة فاشلة يجوبها قُطَّاع الطرق بأقنعة دينية أو سياسية أو بوجوه جنائية سافرة. فمن أين ذلك كله، وإلى أين؟

 

فتش عن الرأس، وفى الرأس، هذه مُسلَّمة بحثية فى مواجهة أى اختلال سلوكى، وما ينطبق على النفس الفردية ليس ببعيد كثيرا عن النفس الجماعية، وليس أوضح من جماعة الحكم تمثيلا للرأس فى أى بلد يمر بما نمر به، وحيث إن الحكم اليوم لذلك الفريق المهيمن من الإخوان، فإن ما فى رأس هذا الفريق ينبئنا بآلية وصولنا إلى ما نحن فيه. كيف؟

 

سأبدأ الإجابة من العَرَض المُشير إلى المرض، والعرض الجامع لممارسات ذلك الفريق الإخوانى المهيمن، والذى ينطوى على سائر مُسببات ما نعانيه، يتمثل فى كلمة واحدة هى: الاستباحة! الاستباحة ثم الاستباحة ثم الاستباحة! ولو شئنا عد مظاهر الاستباحة فسنجدها دانية وواضحة وضوح الشمس فى رَوْعِ النهار، فلم تعد لنهاراتنا تحت سطوة وتمادى هذا الفريق روعة، بل ترويعٌ ماثلٌ ويحتمل التفاقم!

 

لننظر لشهور حكم هذا الفريق من الإخوان السبعة أو الثمانية والذى يمثله الدكتور مرسى فى قصر الرئاسة، فنلمح منذ البدايات تراجعا عن وعود بالتوافق مع سائر أطياف الأمة، ونكتشف زيف مشاريع التنمية وخلو وفاض مشروع النهضة المزعوم، وفى وقت لم نر لهذا الفريق الفاشل رؤية فى قضايا جوهرية كالاقتصاد والأمن والبناء السياسى الديمقراطى ولا حتى النظافة، قصَفَنا ممثل هذا الفريق فى قصر الرئاسة بقرار استعادة مجلس شعب معيب الأداء ومطعون عليه دستوريا، واضطر للتراجع عنه أمام الضغط الشعبى، ثم قصفنا من جديد بإعلان رئاسى طغيانى نفَّر حتى الكثيرين من أنصاره وأهاج المعارضين والمُحايدين، واضطر للتراجع عنه وإن أبقى بالتحايل على مُترتباته فاضحة العوار، وكأن ما يترتب على الباطل ليس بباطل، فظل النائب العام المُعين بطريقة فظة ومُنتَهِكة لكرامة واستقلال القضاء فى موضعه، وأُحيل حق التشريع اختلاسا لمجلس شورى مُوالٍ ومتهافت فى انتخابه وتشكيله، وحُصِّنت لجنة إعداد دستور لا تُمثِّل إلا أُحادية اللون الحاكم بعد حصار همجى للمحكمة الدستورية تحت سمع وبصر الحكم الإخوانى أعاق هذه المحكمة عن نظر دستورية هذه اللجنة وكذلك مجلس الشورى المطعون عليهما، ثم كانت مسرحية إخراج الدستور عرضا هزليا مستمرا دام ثمانية وأربعين ساعة متواصلة من الاستخفاف الفج بالعقول، ثم توالى الباطل المُشيَّد على باطل مُمَثَّلا فى توزيع الدوائر الانتخابية على هوى من يحترفون لعبة الصناديق غير النزيهة قطعا حتى لو كانت الانتخابات حرة، وبدعم من قانون انتخابات مُفصَّل على ذات الهوى المائل. وها هو الإصرار على إجراء انتخابات برلمانية معيبة فى وقت معيب وظرف معيب وكلها لا تعد سوى ببرلمان لن يكون إلا معيبا، ليُشرِّع للتمكين والإحلال والاختراق لهذا الفريق الإخوانى جهارا نهارا عِوضا عما يُدبَّر الآن بليل وغفلة للسيطرة على مفاصل الدولة. وكأن مصر غنيمة لهؤلاء وليست وطنا لكل المصريين.

 

أن يتم ذلك كله دون تحقيق أبسط الوعود التى وعد بها ممثل هذا الفريق فى الرئاسة، وبذلك التواتر المُتسارع وبتلك العجلة والفجعة، فهذا لا يعنى إلا الاستهانة بوجود الآخرين فى الوطن، ومن ثم استباحتهم وعدم احترام ذكائهم ولا مشاعرهم ناهيك عن حقوقهم، وزاد التبشيع بشاعة ظهور ملامح خطيرة من التشوه منها ميليشيات قامت علنا بإزاحة مؤسسة الأمن فى مواجهة المُعترضين وانتحلت حقوق التحقيق والضبطية القضائية وزادت عليها رذيلة التنكيل بالمسحولين الذين احتُجزوا فى خيام «الأسرى»! أمام بوابة قصر الحاكم الإخوانى. فهل كان كل ذلك العنف المعنوى بالاستباحة، والعنف المادى بالترويع، إلا فعلا مشوها من الطبيعى أن يكون له رد فعل مشوه أيضا من العنف المضاد؟ ويريدوننا أن نتوقف عند الأخير وحده بالإدانة! استباحات علنية مضافة لاستباحات سِرِّية أخطر تقتضى الاستنفار الوطنى والتحقيق والتحقُّق مما أثير عن مركز للتجسس على مصر والمصريين فى المقر الرئيسى للإخوان. فمن أى بئر أسود تنبع هذه الاستباحات كلها؟

 

الإجابة تقتضى أن أعود لسيرة الأفعى التى تبلع ذيلها فتغص به ويُنقذها منقذ أو تختنق وتموت. وكما قلت بداية عن البحث فى عطب الدماغ أو مَوَات الذيل، أقول الشىء نفسه عن استباحة الأمة من قِبلِ الفريق الحاكم والمُتحكم من تلك الجماعة التى أتصور أن فيها من هم أفضل وأَخجَل وأَعدَل وأعلم وأحسن ظنا بالناس وبالأسس الأخلاقية الأولى لجماعتهم ممن يهيمنون على أمورها الآن، لكنهم موؤدون بسطوة المتنفذين وربما بترويعهم. وهى استباحة مؤسسة على فريتين فنَّد عوارهما علماء دين ودعاة كبار وأفاضل بوزن الشيخين محمد الغزالى ويوسف القرضاوى، وقد صكهما فى السجن عقلٌ انتقامى وتلقفتهما أرواح مغلقة ونفوس كتيمة تآلفت مع الأبواب الموصدة والتدابير السرية برغم خروجها للعلنية والحرية والنور. فريتان تُشرِّعان لاستباحة من ليس بتابع أو مذعن لهذا الفريق من تلك الجماعة، فريتان هما التأويل المغلوط لمقولة «إن الحكم إلا لله» ومقولة «جاهلية المجتمعات المعاصرة» التى لم تستثن المجتمعات الإسلامية، فعلى متن هاتين المقولتين وتأويلهما الصادر عن أهواء النفوس المتلمظة للسلطة والتسلط صار الأمر «إن الحكم إلا لهذا الفريق من تلك الجماعة» على اعتبار أنه الفريق الحاصل حصرا على صكوك الغفران من السماء ووكالة الله فى الأرض! وعندما يضاف إلى ذلك مفهوم جاهلية المجتمعات الإسلامية بقصد تكفيرها، تجوز لهؤلاء استباحة هذه المجتمعات، بل ابتلاعها، وهو ابتلاع مأساوى للمبلوع، وخانق بل قاتل للبالع عندما تكون اللقمة وطنا بحجم مصر وأمة بتنوع عشرات ملايين من بنيها.

 

وككاتب ومواطن مسالم وضد العنف ضمن أغلبية المصريين، وليس لى قوة إلا قوة مؤسسات الدولة القانونية المُستقلة أو التى ينبغى أن تظل مُستقلة، وأخص منها مؤسسات الجيش والشرطة والقضاء، أقول إن إجراء انتخابات للبرلمان بعد هذه السلسلة من الاستباحات اللاقانونية واللاعادلة، سوف تُيسِّر لهذه الفرقة من هذه الجماعة لا مجرد ابتلاعها لذيلها بل لمصر التاريخية، التعددية والوسطية، ومن ثم أتمنى على كل هذه المؤسسات الوطنية أن تنأى بنفسها فى هذه الفترة الحرجة والملابسات الفظة عن التورط فى تسويغ هذا الابتلاع، بالإشراف أو الحماية أو التأمين، لتمرير انتخابات مزمعة يتعجلها مُهيمنو هذا الفريق الإخوانى، بشروطهم المُعوجة، لصناعة برلمانهم الخاص لا برلمان كل المصريين.

 

 باختصار، نحن المصريين جميعا، بما فينا هذا الفريق وجماعته التى لا يُعقَل أن تظل سِرِّية وإقصائية ومستمرة فى حكم ٍ فاشلٍ منفردٍ عضود، فى حاجة إلى فتح صفحة جديدة لسياسات شفافة، عادلة، توافقية، كفؤة، تشق دربا جديدا للخروج من الغمة، من معضلة الحيَّة المُختلَّة التى تختنق بذيلها.. وبلحم الأمة. ولن تموت الأمة.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .