كورونا والسياسة والاقتصاد والمجتمع - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 9:31 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كورونا والسياسة والاقتصاد والمجتمع

نشر فى : السبت 21 مارس 2020 - 10:35 م | آخر تحديث : السبت 21 مارس 2020 - 10:35 م

يصعب تصور التغيرات بعيدة المدى التى ستنشأ عن محنة كورونا وهى ستتناسب طرديا مع طول فترة هذه المحنة. غير أن هناك تغيرات قد حدثت بالفعل وهى تغيرات ضرورية للبراء من المحنة الراهنة أولا ثم لتفادى تكرارها أو للاستعداد المناسب لها إن تكررت مستقبلا. التغيرات هى على المستوى الداخلى لكل بلد ثم على مستوى العالم وفى العلاقات ما بين المستويين.
فيروس كورونا أعاد للسياسة اعتبارها وللدولة أدوارها فى كل الأنحاء. السياسة باعتبارها عملية لتحديد الاختيارات عند تخصيص الموارد المحدودة فى أى مجتمع، والدولة بحسبانها الجهاز الذى يتخذ فى النهاية قرار هذا التخصيص ويسهر على حسن تطبيقه. فى مثل أزمة كورونا ومرض كوفيد ــ 19 المترتب عليه أولوية الاختيارات تفرض نفسها بنفسها، فالقائمون على الدول وإن أخذتهم العزة بالإثم عند تخصيص الموارد فى الأوقات الطبيعية لا يستطيعون التمادى فى المكابرة فى أوقات الأزمات الكبرى. استمرار هؤلاء القائمين فى مواقعهم متوقف على الحفاظ على المجتمعات التى وجدت الدول لخدمتها. ليس المقصود أن القائمين على الدول سيتخذون القرارات المثلى فى كل حالة ولكن احتياجات البشر والمجتمعات وهى تشتد فى أوقات الأزمات الكبرى، بينما تنقص الموارد الضرورية لتلبيتها، تفرض التغيير فى أنماط التفكير والنقاش أراد ذلك القائمون على الدول حقا أو لم يريدوا.
إعادة الاعتبار للدولة ودورها هو عكس العقيدة التى أخذت فى الاستقرار منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضى التى رأت فى الدولة شرا علاجه بتقليص أدوارها وبإطلاق الحرية للسوق ليلبى هو احتياجات الناس بدون تدخل. بحت الأصوات المعترضة ولم يلتفت إليها أحد إلا لماما. نوهت هذه الأصوات بأن للسوق منطقه الخاص به وهو يبحث عن الربح وليس من أهدافه الحفاظ على صحة الناس أو تشغيلهم، إن لم يُحقق له هذان الهدفان الربح سواء فى المدى القصير أو البعيد. ليس هذا عيبا فى السوق. هى طبيعته التى تتدخل الدولة لموازنته ولتحقيق الأهداف الغريبة عليه.
***
فى الوضع الحالى لمحنة كورونا الدولة فى مصر، كما فى الصين وفرنسا والمغرب والسنغال والولايات المتحدة والمكسيك وغيرها، مطالبة أولا باتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحفاظ على صحة الناس، مواطنين وغير مواطنين، وبالوقاية للحيلولة دون انتقال العدوى وانتشار المرض. مصر وكل البلدان المذكورة اتخذت مثل هذه الإجراءات، بعضها سارع إلى اتخاذها والبعض الآخر تأخر إدراكه واستهتر بالفيروس وقدم أولويات أخرى على مقاومته، كما حدث فى الولايات المتحدة حيث قدم رئيسها عليها اعتبارات إعادة انتخابه. تخصيص الموارد الضرورية لمقاومة المرض من مجرد توفير الكمامات والقفازات والمطهرات ثم تجهيز العدد المناسب من أسرّة العناية المركزة والمراوح اللازمة لمن يصيبهم كوفيدــ19 يعنى نقلا للموارد من تنفيذ سياسات خصصت لها إلى الغرض الجديد لمقاومة كوفيدــ19 أو تخصيص موارد جديدة له. الأمر يتعلق بأولويات كانت لمجموعات فى داخل المجتمعات أو بنزوات لها. لمقاومة الفيروس ستخسر بعض مجموعات من إعادة توجيه موارد بعيدا عن أولوياتها، ولكن المجموعات جميعا، أى المجتمع كله، سيكسب لأن عوائد مقاومة الفيروس سلعة عامة ليس مطروحا التمييز بين المستفيدين بها، امرأة أو رجلا، أسود أو أبيض، بوذيا أو سيخا، فقيرا أو غنيا. فى السياسة وفى قرار الدولة مصلحة للجميع.
على أن تدخل الدولة الذى لا يجادل فيه أحد الآن لا يتوقف عند صحة الناس. محنة كورونا وجهت ضربة عنيفة للاقتصاد. بقاء الناس فى منازلهم أحدث تراجعا فى الطلب على السلع والخدمات وإغلاق المنشآت أو تقليص عدد المشتغلين فيها لحمايتهم من انتقال العدوى نتج عنه انخفاض فى العرض. التراجع فى الطلب والانخفاض فى العرض يغذى كل منهما الآخر فى حلقة مفرغة خبيثة هددت النشاط الاقتصادى برمته بالتوقف عن العمل، وهو ما يعنى فقدان الملايين لوظائفهم ومصادر دخلهم التى بها يلبون الاحتياجات المعيشية لأسرهم. منظمة العمل الدولية فى دراسة سريعة لآثار محنة كورونا على التشغيل فى العالم قدرت أن عدد من سيفقدون وظائفهم سيتراوح فيما بين الخمسة ملايين والخمسة وعشرين مليون عامل.
أن يفقد الملايين وظائفهم مسألة اجتماعية ومجتمعية بكل معنى الكلمة، ويمكن تصور أبعاد مخيفة لها إن امتدت محنة كورونا فى الزمن ولم يجد لها العلماء فى الأسابيع القليلة القادمة مصلا يحمى البشر منها. من المراقبين من يتصور أنه بعد التعاون فيما بين الناس للوقاية من الفيروس فى مرحلة أولى، إن استمرت المحنة شهورا فقد ينقلب التعاون صراعا على الموارد المتناقصة فى مرحلة تالية. لذلك فهم يدعون إلى أن يكون الهدف الأول للسياسات الاقتصادية هو الحفاظ على تماسك المجتمعات، ومن الجلى أن هذا لا يتأتى إلا بالتوزيع العادل للسلع والخدمات المتاحة. أى تغيير هذا إن قسته بالسياسات الاقتصادية النيوليبرالية!
ليس معروفا إن كانت أسوأ السيناريوهات فى أذهان القائمين على الدول أم لا، ولكن الثابت أنهم أدركوا أبعاد الانهيار الاقتصادى الذى يمكن أن يهدد مجتمعاتهم، ولذلك تجد البنك المركزى الأوروبى يمنح تسهيلات بسبعمائة وخمسين مليار يورو لمساندة المنشآت ولشراء الأوراق المالية حتى لا يتوقف النشاط الاقتصادى. والولايات المتحدة على وشك تخصيص تريليون دولار لنفس الأغراض. وحكومات الصين، وألمانيا، وفرنسا، وإسبانيا، وغيرها أطلقت حزما من الإجراءات بمئات المليارات من اليوروات والدولارات لتنشيط اقتصاداتها. الولايات المتحدة خفّضت كذلك سعر الفائدة للتشجيع على الاقتراض من أجل الإنتاج والاستهلاك وحذت مصر حذوها. ثمة من يشكك فى جدوى تخفيض سعر الفائدة فمن ذا الذى سيقترض فى الوقت الراهن لكى يضيف إلى إنتاجه بينما الطلب يتراجع؟! ومن ذاك الذى ينشد الاستهلاك فى الظروف النفسية الحالية وفى ظل تراجع المعروض من السلع والخدمات؟! غير أن الحكومة فى مصر أعلنت أيضا منذ أكثر من أسبوع عن تخصيص مائة مليار جنيه مصرى لمواجهة كورونا وآثاره. يذكر فى صدد مئات المليارات التى خصصتها الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى أن المفوضية الأوروبية قد علقت البند الذى ينص فى عهد النمو والاستقرار المعتمد فى سنة 1997 على ألا يتعدى العجز فى ميزانية كل دولة عضو الثلاثة فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى لهذه الدولة. صار ممكنا أن يتخطى الثلاثة فى المائة لأن تنشيط الاقتصاد له الأولوية القصوى. مصر، ومعها دول أخرى، يجب أن تطالب صندوق النقد الدولى بأن يخفف من شروط القضاء على العجز فى ميزانيتها وأن يمد فى الفترة التى يتحقق فيها هذا الهدف فضلا عن تبديل الأدوات المستخدمة لتحقيقه.
سواء كان هذا مبلغ المائة مليار المعلن عنه فى مصر كافيا أم لا فهذا إجراء فى محله الرجاء هو أن يتأكد وأن يحسن توزيعه. فى مصر كما فى غيرها دوائر لأصحاب المصالح تمارس نفوذها من أجل أن تفوز بأكبر قسط من الموارد التى تخصصها الحكومات. من سيضارون كثيرون ومنهم مثلا الفنادق وشركات السياحة والمصدرون الذين سينخفض الطلب على صادراتهم نتيجة لتراجع النشاط الاقتصادى فى الأسواق الخارجية. مساندة هؤلاء المنتظمين فى جماعات للمصالح مشروعة تماما، ولكن الدولة، متخذة قرار تخصيص الموارد، يجب أن يكون حاضرا فى ذهنها دائما أنه بخلاف الستة ملايين موظف حكومى وزهاء الثلاثة إلى أربعة ملايين العاملين فى القطاع الحديث الخاص من الاقتصاد، فإن ما يقرب من عشرين مليونا، أى ثلثى قوة العمل المصرية يعملون فيما بين الزراعة والقطاع غير المنظم الذين لن تصل إليهم أى مخصصات لمساندة القطاع الحديث. أكثر المعرضين لفقدان وظائفهم ومصادر دخلهم هم العاملون فى القطاع غير المنظم وهم أغلبية فى قوة العمل المصرية دخولهم منخفضة وليس بحوزتهم عقود عمل ولا هم يستفيدون بضمان اجتماعى أو بإجازات سنوية. الرجوع إلى الخبراء المهتمين منذ أمد بعيد بدعم الإنتاج فى القطاع غير المنظم وبرفع كفاءته وظروف عمل الناشطين فيه ضرورى تماما لمساندة هؤلاء العاملين وكذلك أولئك الذين سينضمون إليهم لإنتاج سلع وخدمات بديلا عن منشآت فى القطاع الحديث التى سيصيبها العطب من جراء كورونا وتبعاته. وبنفس القدر من الضرورة يجب الكف عن مهاجمة القطاع غير المنظم والمطالبة بفرض الضرائب عليه كسياسة وحيدة فى شأنه.
***
الاعتراف المجدد بدور الدولة ضرورى إذن وهو مرحب به إلا أنه لا يعنى أن تنغلق الدول على ذاتها وأن ينقطع التواصل بينها وتستثنى نفسها من الانخراط فى أنظمة دولية ذات قواعد موحدة، وهو الوهم الذى راود الشعبويين من دعاة التفرد القومى. أول حجج التعاون الدولى متعدد الأطراف، وهو شكل من أشكال الأنظمة ذات القواعد الموحدة، هو أن تستفيد الدول من تجارب كل منها. فى حالة مقاومة فيروس كورونا، التعاون يؤدى إلى ترشيد الإنفاق العام فى وقت تشح فيه الموارد، فما يطبقه بلد فينجح فى علاج الناس وفى تنشيط الاقتصاد وفى إنقاذ فرص العمل يمكن أن تستفيد به بلدان أخرى وأن تعمل به دون حاجة لإجراء تجارب جديدة تنفق عليها الموارد.
ثم إنه يجب أخذ ظروف العولمة فى الاعتبار فالسياسات لا تصاغ أو تطبق فى فراغ. فى ظل العولمة المتنامية السرعة منذ بداية القرن الحادى والعشرين، إنتاج أى سلعة نهائية مثلا يمر عبر سلسلة من عمليات الإنتاج الجزئى فى بلدان عديدة. تنشيط عملية الإنتاج فى بلد ما لا يؤتى نتيجة إن لم تنشط حلقات الإنتاج فى البلدان السابقة عليها واللاحقة لها. من هنا ضرورة التنسيق فى تنشيط الإنتاج. ولكن الإنتاج فى سلسلة عبر وطنية لا معنى له ما لم يمكن الاتجار فى هذه السلع، بعبارة أخرى إن لم يمكن بيع السلعة النهائية فى كل البلدان التى تم تصنيع أجزائها فيها، والأهم من ذلك فى بقية بلدان العالم حيث يوجد طلب عليها. فى لحظة ما، بعد زوال المحنة أو قبلها، ستجتمع دول العالم بالضرورة للبحث فى تيسير التبادل العالمى لأن عليه يتوقف الإنتاج العالمى فالبديل عنه هو العودة لسياسات الاكتفاء الذاتى الأقل كفاءة فى استخدام أدوات الإنتاج وما يمكن أن تؤدى إليه هذه العودة من تراجع فى مستويات المعيشة ومن تهديد للسلم معروف عندما تنقطع السبل بين الدول وينفرط عقدها.
كورونا يهدد الاقتصاد والمجتمع فى كل بلد والاقتصاد العالمى والمجتمع البشرى جميعا.
الأمل معقود على السياسة والدولة فى كل بلد على حدة، وعلى التعاون بين الدول على مستوى العالم للتغلب على كورونا وتبعاته.

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات