كانت تلك المرة الأولى التى تابع فيها العالم لحظة بلحظة وتطورا بعد آخر حريقا مروعا فى واحد من أشهر المعالم التاريخية والأثرية.
بقوة ثورة الاتصالات تمكنت البشرية من متابعة حروب وثورات وانتفاضات ومآس، أغلبها حيث نعيش فى إقليم مشتعل بالنيران تدوس أحلامه الأقدام الغليظة التى تخاصم عصرها.
هذه المرة اختلف موضوع المتابعة، تعلقت الأبصار والمشاعر بما يحدث على بعد آلاف الكيلو مترات فى كاتدرائية نوتردام بقلب باريس، كأن الحريق هنا.
النيران التهمت تحفة العمارة القوطية فى القرون الوسطى، سقط برجها الأعلى وتقوضت بنيتها التحتية.
كان ذلك مشهدا مفجعا بأى حس إنسانى وتاريخى.
لم يكن ذلك الوجه كل ما انعكس على مرايا شبكة التواصل الاجتماعى.
هناك من شمت فى حريق الأثر المسيحى، كأنه يتمنى أن يحدث هنا فى مصر حيث شركاء الوطن ودور عبادتهم.
الشماتة تعبير عن أفكار تخاصم القيم الإنسانية التى تحض على التعايش والتسامح بين الشعوب والثقافات والأديان.
لا يمكن أن نكتسب جدارتنا الإنسانية أمام الضمائر الحرة فى العالم، نحن المستباحون فى قضايانا ووجودنا نفسه، إذا كنا ننكر على الآخرين حقهم فى الأسى العميق مما لحق بتاريخهم ووجدانهم وإرثهم الفنى والجمالى من تدمير.
لم يكن ذلك الإرث مسألة مرت دون صراع وصدام حكم مستقبل القارة الأوروبية، كان التصوير الدينى محرما فيما عرف بحركة «تحطيم الصور» فى الإمبراطورية البيزنطية قبل أن تعود تدريجيا إلى الكنائس باعتقاد أنها تساعد من لا يعرف القراءة على فهم دينه.
هكذا تراكم إرث جمالى وتاريخى ودينى اكتسب طابعه الإنسانى العام.
فى ذروة صعود حركات التحرير الوطنى بعد الحرب العالمية الثانية شاع بالأدبيات السياسية تعبير «وحدة المصير الإنسانى»، فلا أحد يعيش وحده فى العالم، كما ليس بوسع أية قضية مهما كانت عدالتها أن تصل إلى ما تطلبه من حقوق إذا خسر خطابها أحقيته فى الانتساب إلى الإنسانية المعاصرة.
«الإرث الإنسانى المشترك» تجل آخر لـ«وحدة المصير الإنسانى».
الشماتة خروج من العصر وقيمه وحكم دامغ بالإدانة على أصحابها.
هناك نظرة ضيقة تبحث فى متون الكتب القديمة عما يفرق ولا يجمع، تنكر الإرث الحضارى للإسلام وتلطخ سمعته بالتصرفات المتفلتة، غير أنها تطلب من العالم بالوقت نفسه الإنصاف والعدل والوقوف ضد «الإسلاموفوبيا» والشعبوية الأوروبية التى تروع الأقليات المسلمة واللاجئين من الشرق الأوسط.
القوة الأخلاقية مسألة حاسمة فى كسب القلوب والقضايا.
من حقنا أن نتساءل عن مدى مسئولية القوى الغربية المهيمنة على ما جرى لإرثنا الحضارى فى المشرق العربى من نهب وحرق وتدمير على يد «داعش».
كانت ذروة المأساة ما جرى لمتاحف بغداد على يد قوات الغزو الأمريكى عام (2003).
مقياس الحساب والمساءلة هو نفسه مقياس القيم الإنسانية.
عندما نهضت نيوزيلندا لإدانة عمل إرهابى نال من أحد المساجد فى عاصمتها حظت رئيسة الوزراء «جاسيندا أردرن» باحترام بالغ فى العالم، الشرق الإسلامى بالذات.
ارتفع الأذان فى أنحاء العاصمة وارتدت رئيسة الوزراء حجابا كفعل رمزى، يؤكد عمق الإيمان بحق المسلمين بالذهاب إلى دور العبادة دون خشية عنف وإرهاب.
تبارت الفضائيات الدولية فى تغطية الحدث كنوع من التضامن الإنسانى لا الدينى.
إذا لم ندرك ضرورات الانفتاح على القيم الإنسانية الحديثة، فإننا لا محالة خارج العصر وخارج التاريخ.
إصلاح الخطاب الدينى مهمة المجتمع أولا بمفكريه ومثقفيه.. وهذه مسألة بيئة ثقافية صحية لا تحجب رأيا ولا تمنع اجتهادا، ومهمة الدولة ثانيا بإرساء قواعد الحكم الرشيد التى تؤكد احترام القانون وتشيع حقوق المواطنة وروح التسامح.. وهذه مسألة بيئة سياسية تضمن الحقوق والحريات العامة والعدل الاجتماعى وتلتزم مدنيتها باستقلال القضاء والجامعات والمجتمع الأهلى وحرية العمل النقابى.
عندما ترسى القواعد ينعكس ذلك على المؤسسات الدينية بلا إكراه ويزيح شوائب الأفكار من المسرح كله.
بنفس مرآة نوتردام تبدى على خفوت مصدر آخر لشىء من الشماتة على وسائل التواصل الاجتماعى خلط بين الإرث الاستعمارى الذى نهب موارد بلداننا وهيمن على مقدراتها لعقود طويلة، وقد استدعى المقاومة الوطنية طلبا للاستقلال والحرية، وبين الإرث الإنسانى الذى هو جامع حضارى مشترك بين الشعوب.
لكل شعب إسهامه فى الحضارة الإنسانية بقدر تجربته فى التاريخ، الحضارة نفسها أقرب إلى وعاء تنصهر فيه التجارب وكل منها تأخذ وتضيف.
فى العقود الأخيرة شاعت مصطلحات «صراع الحضارات» و«نهاية التاريخ» تلتها دعوات لـ«حوار الحضارات».
الحقيقة إنها حضارة واحدة لها روافد مختلفة.
هذا توجه آخر أقرب إلى روح العصر دون إنكار إرث التعالى على الشعوب المستضعفة.
هناك صدام لا يمكن إنكاره بين الكراهية المعلنة والمكتومة وروح العصر بثوراته المعلوماتية التى تزكى التفاهم بين الشعوب.
أحد تجليات ذلك الصدام زحف الشعبوية فى أوروبا وتمركزات جماعات العنف والإرهاب داخلها، كلتاهما تتغذى على الأخرى وتجد فيها مبرر وجودها وتمددها.
كان التضامن الواسع مع فرنسا فى محنة حرق أشهر ما ورثته من فنون معمارية وأيقونات وذخائر لا تعوض، تأكيدا جديدا لوحدة الحضارة الإنسانية وأن الخسارة واحدة، رغم أى ظواهر مزعجة كـ«الشعبوية» وما تحمله من استعلاء قومى وجماعات العنف والإرهاب وما تعكسه من تطرف دينى.
فى مثل هذه الأجواء من التضامن بدا ممكنا أن يساهم العالم فى إعادة ترميم الأثر التاريخى الفرنسى، عبر منظمة «اليونسكو»، أو بالتبرعات المباشرة.
شىء من ذلك حدث مع مصر قبل تحويل مجرى النيل فى مشروع السد العالى لنقل معبد«أبو سمبل»، كان ذلك عملا هندسيا هائلا استدعى الدعم الدولى عبر منظمة «اليونسكو» حتى لا تطمسه المياه.
لم يسأل أحد فى العالم وقتها عن الصدام الغربى مع ثورة «يوليو» فى مصر، ولا كان بوسعه أن يسأل أمام حجم الأثر التاريخى الفرعونى الذى هو إرث إنسانى جليل يخص البشرية كلها.
المعنى نفسه تبدى فى مرآة نوتردام، الإرث الإنسانى المشترك قبل وبعد أى شىء آخر.