نحن كاريكاتيرات أنفسنا - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 1:48 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نحن كاريكاتيرات أنفسنا

نشر فى : الأربعاء 21 سبتمبر 2016 - 10:45 م | آخر تحديث : الأربعاء 21 سبتمبر 2016 - 10:45 م
توقفت عند صورة ظهرت لى على إحدى صفحات التواصل الاجتماعى ودققت فى تفاصيل وجه صاحبتها. أنا أعرفها جيدا لكننى لم أتذكر من هى. أسمع نبرة صوتها فأنا متأكدة أننى قد أمضيت أوقاتا كثيرة فى صحبتها فكيف لا أذكر من كانت؟ ثم أتذكر أن تلك السيدة التى فى خاطرى قد توفيت منذ سنوات، وأننى أعرف جيدا ظروف رحيلها بعد معاناة مع المرض، فهى كانت صديقة والدتى. ألاحق الصور على الصفحة فأفهم أن السيدة التى فى الصورة هى ابنة من لمحتها فى خاطرى. أتذكرها هى الأخرى ولو أننى لم أرها منذ قرابة العشرين عاما. لم تتغير كثيرا فأنا الآن أتعرف على ضحكتها الجميلة كما فى ذاكرتى وبريق عينيها حتى ولو أنهما حزينتان.
***
هذه ليست المرة الأولى التى يُهَيؤ لى أننى أتعرف على شخص ثم ألاحظ أن من أمامى هو ابن أو ابنة من فى بالى. أنا نفسى حين أمر سريعا أمام مرآة، كثيرا ما أرى فيها نظرة أمى، أو تعبيرا خاصا جدا بها، لطالما تأملته حتى أفهم ما يدور فى رأسها. فى صورتى فى المرآة أرى أحيانا والدتى كما عهدتها حينما كانت فى عمرى، يبدو لى أننى وصلت إلى مرحلة فى حياتى ألتقى فيها مع والدتى وصديقاتها فى مخيلتى، ففى ذهنى صور كثيرة لهن فى بيت إحداهن أو الأخرى، أو فى بستان جالسات على مفرش فردنه على الأرض حين أزهر شجر المشمش، أو فى حفل زفاف متألقات، أو فى مجلس عزاء متشحات بالسواد. كثيرا ما قيل لى أننى أشبهها، لكننى لم أكن أرى فى وجهى ذلك الشبه حتى وصلت إلى العمر الذى أظن أننى جمدتها عنده فى مخيلتى، فى قمة عطائها وقمة كرمها العاطفى وقمة حضورها اللافت فى البيت وبين العائلة والأصدقاء.
مع تقدمنا فى العمر، يبدو أننا نقترب فى شكلنا، وربما أيضا فى تصرفاتنا، من شكل وطريقة والدينا، حتى ولو أننا كثيرا ما نحلف أننا لن نكرر بعض عاداتهم، ألاحظ أننا أيضا كثيرا ما تتركز فينا صفاتنا الأقوى أو الأكثر وضوحا، سواء ما هو ملموس أو غير ملموس. فالقلِق منا يزيد قلقه، والهانئ منا يزيد طبعه جمالا، البخيل يشتد بخله والتعيس يغوص فى النكد.
نتحول مع الوقت إذا وبشكل متواصل إلى كاريكاتير عن نفسنا وعن والدينا، مَنْ عيناها صغيرتان تراهما تغوصان رويدا رويدا، مَنْ أنفه كبير ترى أنفه قد كبر مع الكبر، قلما يصبح الشخص المزعج شخصا جميل المعشر مع الكبر، وغالبا ما يستسلم المستكين للحياة فتراه جالسا فى زاوية على كرسى من القش وكأنه ينظر من هناك إلى ما بقى له من الحياة يمر أمامه.
أتخيل أحيانا أن الحياة تمشى فوقنا ببطء، تدوس فوقنا قليلا كل يوم لكن برفق وبشكل قد لا نشعر به فى حينه، إنما نحس بأثره وتأثيره بعد عدة سنوات. كأن يرمى أحدنا حجرا صغيرا على لوح من الرخام كل يوم، فى نفس المكان، دون أن يبدو أن بإمكان الحجر الصغير أن يغير ملمس الرخام الصلب البارد المتماسك، لكن بعد سنوات من رمى الحجر على نفس المكان نراه قد خلف فيه كدمة، تماما كما تفعل فينا الحياة.
***
حين أنظر أحيانا فى وجه أحد أخوالى أرى فيه لمحات من جدتى، والدتهم، وإخوانها، حتى أشعر أننا بتنا جميعا نشبه بعضنا بعضا، على مدى ثلاثة عقود، وكأننا نفتح عدة أنابيب من الألوان الزيتية ونضعها دون أغطيتها على أطراف ورقة رسم كبيرة فيبدأ ما فيها بالسيلان خارجا من الأنابيب، الأحمر من الطرف اليمين، الأصفر من اليسار، الأخضر من فوق والأزرق من تحت، تسبح الألوان ببطء شديد على الورقة، حتى نجدها التقت فى منتصف الورقة وتمازجت فى بقعة ألوان فى الوسط، نرى فيها بعضا من كل أنبوب لكننا نراه ممزوجا بباقى الألوان.
من منا لم ينظر مرة إلى أفراد عائلته وهم فى موقف ما، ووعد نفسه أن يتذكر الموقف فى حال تكرر معه حتى يكون تصرفه مختلفا، ثم رأى نفسه يكرر كلمات والده أو والدته حتى أنه هيأ له أنه قالها أصلا بصوتهم وليس بصوته، مستعملا نبرتهم وليس نبرته، فى ردة فعل تفاجئنا لأنها مألوفة غير أننا لسنا معتادين على أن تخرج منا؟
ربما نحن نتحول ببطء إلى مزيج منا ومن والدينا، ربما هذا هو خط الحياة والحبل السرى الذى لا يمكن أن ينقطع، نأخذ جزءا منهم نحمله داخلنا ونسلم جزءا من الجزء إلى من يأتى بعدنا، تماما كأنابيب الألوان التى ممكن أن ينتج عن مزيجها اللون البنفسجى الغامق أو البرتقالى الفرح، وفق مكان التقاء الألوان الأساسية على الورقة.
***
نحن كاريكاتيرات أنفسنا ومقتطفات من والدينا، وفى ذلك ما نحبه وما نتمنى كذلك لو أننا لم نأخذه، تربت علينا الحياة أو تصفعنا، لكن أكثر ما يؤثر علينا هى تلك الحركة الرتيبة المتكررة للحجر الصغير الذى لا نشعر بوقعه علينا على مدى الساعة، إنما يحفر على جانب وجهنا تجعيدة نتساءل أحيانا من أين ظهرت، ثم نعود ونتذكر نصف الابتسامة التى أخذناها من والدنا الذى كان يكتفى بشد فمه إلى اليمين فتظهر، وها هى التجعيدة ذاتها، تماما كالتى كان يحملها هو منذ كان شابا فى الأربعين، حين جمدناه فى ذاكرتنا.

 

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات