المكان والمكانة وثقافة الاستقالة - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:01 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المكان والمكانة وثقافة الاستقالة

نشر فى : الجمعة 22 فبراير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الجمعة 22 فبراير 2013 - 8:00 ص

يظن كثير من البشر أن المكان هو الذى يهب الإنسان المكانة، ويظن آخرون أن مكانة الإنسان هى التى تهب المكان معناه، وأصحاب النظرية الأولى هم أولئك الذين يطمحون إلى المناصب مهما كانت تنازلاتهم عن المبادئ الأخلاقية أو تغير اتجاهاتهم السياسية والاجتماعية بل وأحيانا الدينية أما أتباع النظرية الأخرى فهم الذين لا يتطلعون إلى مناصب لكنهم يركزون على بناء عقولهم وشخصياتهم على مبادئ أخلاقية ثابتة وعندما يختارون لمناصب عليا يترددون كثيرا وعندما يقبلون يعملون بكل أمانة فيحولون المكان الذى وصلوا إليه إلى رؤى وأهداف وإنجاز، ومن السهل جدا على هؤلاء أن يقدموا استقالاتهم إذا ما اصطدموا بضغوط معينة لينفذوا سياسات تتعارض مع مبادئهم او أخلاقياتهم، ومن هنا جاءت ثقافة الاستقالة.

 

ولقد جاءت استقالة البابا بنديكتوس السادس عشر صدمة ضخمة للعالم واعتقد أنه صارع كثيرا مع ذاته قبل أن يعلنها وذلك لعدة أسباب:

 

أولا: أن المنصب له قداسة خاصة:

 

فتعيين البابا هو من الله مباشرة خلال طقوس يقوم بها بشر ــ بحسب العقيدة المسيحية ولقد رأينا صعوبة اختيار بابا الإسكندرية من تصفية وانتخابات ثم قرعة، كل ذلك للتأكيد على أن التعيين يأتى مباشرة من الله وعادة المختار لهذا المنصب يكتئب ويحزن لأن المنصب سوف يقيده ببروتوكلات ومقابلات واتخاذ قرارات سياسية واجتماعية، ويرتبط بعلاقات دنيوية تخدش سلامه الروحى لكن لأنه يقتنع بأنها رسالة من يقبل المنصب، لذلك من الصعب هنا أن يقدم استقالته من رسالة إلهية.

 

وبسبب هذا الفكر بقى باباوات فى المنصب رغم إصابتهم بالزهايمر أو بالضعف الجسدى الشديد وعادة فى مثل هذه الحالات تقوم بعض مراكز القوى المحيطة بالبابا بالتحكم فى الكرسى الباباوى والحكم من خلاله وقد تم هذا كثيرا فى تاريخ الكنيسة ولقد ألمح البابا بنديكتوس أكثر من مرة أنه لا يريد أن يصل إلى درجة الضعف الجسدى التى تجعله غير قادر على إدارة الكنيسة ولقد عبر عن ذلك فى خطابه الأخير للكرادلة (المجلس الكنسي) بالقول: بعد أن راجعت ضميرى مرات عدة أمام الله، وقد وصلت إلى التأكد من أن قواى لم تعد تحتمل القيام بمهام الكنيسة البطرسية بسبب تقدمى فى العمر أتقدم باستقالتى من المنصب فى 28 فبراير 2013؛ ولا شك أن هذا المنطق يحسب له وليس عليه، ولا يمس قداسة المنصب بل يصونها.

 

ثانيا: إن المنصب له بعد تاريخى:

 

كل شخص يصل إلى هذه المكانة يصبح جزءا من التاريخ، لكن لكى يصبح هذا الشخص رمزا تاريخيا يحتاج أن يحقق ثلاثة أمور: أن يكون قويا له مواقف تاريخية مصيرية فى الدفاع عن الكنيسة والعمل على وحدتها وصيانتها (قائد) ثم أن يكون له إنجاز واضح (صاحب مشروع) وأخيرا أن يكون محبا ومحبوبا (راع) ولقد كان يوحنا بولس البابا السابق له والذى استمر على الكرسى 27 سنة له كاريزما خاصة واستطاع أن يكون رجل الحب ورسول سلام للعالم من ناحية ومن الناحية الأخرى كان رجل القوة عندما تصدى لإسقاط الشيوعية فى بلده بولندا وقد تحالف مع ريجان رئيس الولايات المتحدة حينئذ ومارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا لإسقاط الاتحاد السوفييتى عالميا وكان يعتبر أن هذه رسالة ضد الشر والإلحاد، وكان هذا إنجازه العظيم. ولقد كان بنديكتوس شخصية مختلفة فهو من التيار الأصولى فى الكنيسة وكان أكاديميا فذا وبالطبع الشخصية الأكاديمية لا تحكم العاطفة بقدر تحكيم العقل والتفكير العلمى، ولقد كانت له إنجازاته الضخمة فى علم اللاهوت ولقد اعتبر أن المهمة الإلهية التى يجب أن يقوم بها هى مواجهة الإرهاب والجريمة، فالخطر الشيوعى قد زال وبقى خطر الفوضى والتى تكون بيئة صالحة لنمو الإرهاب الفردى والجماعى، ولقد تحدث كثيرا على أن الرأسمالية الجامحة والفارق بين العالم الغنى والفقير هو الذى يؤدى إلى التعصب الدينى والإرهاب والجريمة، لقد انجز البابا بنديكتوس الكثير لكن عامل السن والضعف الجسدى كانا له بالمرصاد ومن هنا جاء صراع استكمال المهمة ولأنه رجل موضوعى وتفكيره أكاديمى لم ينحز لفكرة استكمال الرسالة حتى الموت فهذه النوعية من تفسير الروحانية تؤدى إلى العكس تماما وهو إضعاف الرسالة التاريخية والمهمة الإلهية.

 

ثالثا: اصطدامه بالواقع الكنسى الداخلى:

 

لقد تصدى البابا بنديكتوس لإصلاح الداخل بحماسة شديدة ومن أصعب الأمور على رئيس كنيسة أو أى مؤسسة دينية على وجه العموم هى التصدى للفساد الداخلى، ولب الصعوبة هنا وجوهرها أنه سوف يحاسب قديسين، والقديسون لا يحاسبون، وهذه معضلة شديدة الصعوبة داخل أى مؤسسة دينية فى العالم فمنذ أن يعين رجل الدين وهو فى العشرينات من عمره يعتبر نفسه رجل الله المدافع عن الإيمان وهو أكبر من أى مساءلة لذلك هو لا يقبل أى نوع من المحاكمة أو المراجعة حتى من رؤسائه وإن تمت أمور مثل هذه لابد وأن تكون غير معلنة للجماهير بدعوى أنها أسرار وإعلانها يسىء للمؤسسة الدينية ولكن الحقيقة أن إخفاء هذه الأمور يسىء أكثر، ولقد كانت القضية التى أثارت العالم هى فساد قلة قليلة من الكهنة وقد تصدى لها البابا واعترف بها بشجاعة ودفع تعويضات كثيرة لأهالى الضحايا، وكانت هذه القضية تؤرقه بشدة وهو فى المنصب لأنه كان يعتقد أنه كان لابد وأن يكون أكثر صرامة وأكثر وضوحا، مع أنه كان فعلا أكثر صرامة ووضوحا من كل الذين سبقوه وقد وضع هذا الأمور فى حجمها الحقيقى، ولعلنا نلاحظ هذه الحساسية الشديدة فى بلادنا فى المؤسسات الدينية إسلامية كانت أو مسيحية.

 

رابعا: الصراع بين ما هو روحى وما هو دنيوى:

 

يعيش رجل الدين حياته فى صراع لا ينتهى بين ما هو روحى وما هو دنيوى، ذلك بسبب الفاصل الوهمى الذى وضعه تاريخ الفكرى الدينى والذى جاء متأثرا بالفلسفة التى انتشرت قبل الأديان فى اليونان القديمة والتى أكدت أن كل ما هو مادى عالمى شر مثل السياسة والتجارة والعمل اليدوى.. إلخ.

 

وأن كل ما هو فكرى أو روحى خير ومتسام لذلك قسم العالم القديم المجتمع بين أسياد وعبيد فالأسياد هم الذين يفكرون والعبيد هم الذين يعملون، وبمجىء الأديان ترسخ هذا فى نفوس البشر فالمناصب شر لأنها ليست أمورا روحية والسياسة بلا أخلاق والبيزنس بلا مبادئ.. إلخ أما الشخص الروحانى فعليه أن يتفرغ للصوم والصلاة والزهد.. إلخ.

 

لكن المناصب الكنسية تعيش على الحافة الحادة بين ما هو مادى وما هو روحى، فالمنصب روحى سياسى وثقافة رجل الدين روحية عالمية، ولا يوجد تحديدا واضحا معلنا يقول إن هذا روحى وذاك مادى أو عالمى مما يجعل رجل الدين يعيش فى صراع حقيقى، وعندما يوضع فى منصب ينحاز إما إلى التوجه العالمى أو الروحى بحسب طبيعة شخصيته أو توجهه، لذلك دائما تجد هذه الحساسية عند الشعب فعندما ينحاز بابا إلى الروحانية ينتخب الشعب بعده بابا ينحاز إلى العمل السياسى والاجتماعى والعكس صحيح.

 

●●●

 

ومن الملاحظ فى بلادنا ــ أن هناك جماعات أرادت أن تحصل على الميزتين أن تكون سياسية وتحكم البلاد بالدين وهنا ضربت عصفورين بحجر، فإذا نجحت فى سياستها فنجاحها هذا يعود إلى ذكائها السياسى وقدرتها على الإدارة وإذا فشلت تتمسك بالسلطة لأنها معينة من الله ولديها مهمة يجب اكتمالها، فتأخذ قداسة عدم النقد لمهمتها الإلهية وترفض أن تتعامل مع الديمقراطية وتبادل السلطة وتقاسمها لأن هذا رجس من عند الشيطان ويا ويل بلاد تحكمها هذه المبادئ الزئبقية.    

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات