غياب التواصل وصعود التعصب - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:22 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غياب التواصل وصعود التعصب

نشر فى : الأربعاء 22 يونيو 2016 - 8:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 22 يونيو 2016 - 8:50 م
من أهم أسباب الفوضى السياسية التى تعم المجتمعات المدنية العربية، والصراعات الإثنية والمذهبية والقبلية التى تستهلك طاقة المجتمعات، بحيث لا يبقى من هذه الطاقة شىء لتوجيهها للبناء التنموى والحضارى.. من أهم تلك الأسباب هو عدم وجود ممارسات التواصل بين مكونات تلك المجتمعات.

ونعنى بممارسة التواصل وجود رغبة حقيقية للتعرف على فكر وشكاوى ومعاناة وآمال الآخر، ومحاولة إجراء التحاور الهادئ المنفتح المتسامح معه، ذلك التحاور الصادق الشفاف الذى يحدد بالضبط ما هو مقبول وما هو مرفوض. وبمعنى آخر وجود منطلقات تحكم ذلك التحاور وتضبطه، منطلقات تقوم على العقلانية من جهة وعلى تحكيم الضمير الأخلاقى العادل من جهة ثانية.

هذا النوع من التواصل لم يحدث بين أتباع الديانات المختلفة، ولا بين أصحاب المذاهب الإسلامية المتعددة، ولا بين المنتمين لأحزاب وإيديولوجيات متنافسة. فالذى حدث هو تخندقات فى جهات متقابلة، قائمة على الجهل شبه التام بما لدى الآخر، وعلى اختزال الآخر فى شعارات وكلمات مثيرة وعاطفية وغير قابلة للأخذ والعطاء. والنتيجة هى تأصل النزعة المجنونة لاستئصال الآخرين أو تهميشهم إلى حدود الإذلال والاستبعاد، والتى تحكم على الأخص الحياة السياسية العربية التى تحياها ببؤس وشقاء كل الأرض العربية.

وبالطبع فإذا كان غياب مثل ذلك التواصل يطبع العلاقات بين مكونات المجتمعات العربية المدنية، فإن غيابه أشد وأفجع بين مكونات المجتمعات من جهة وسلطات الحكم من جهة أخرى.


***

لقد عايش العرب فى الماضى الصراعات بين القوى القومية العربية والقوى السياسية الإسلامية، بين الإسلاميين والاشتراكيين الماركسيين، بين ما عرف بأنظمة الحكم المحافظة وأنظمة الحكم التقدمية، وبين رافعى شعارات الأصالة المنغلقة ورافعى شعارات الحداثة الطائشة. وها هم اليوم يعايشون قمة بؤسها فى الصراعات الدموية المتوحشة التى يرونها يوميا تحدث فى العديد من أقطار الوطن العربى، وعلى الأخص مشرقه.

فى قلب موضوع غياب فكر وممارسة التواصل، بتلك الصورة المشرقة التى ذكرنا، صفة حياتية اجتماعية لازمت العرب طيلة تاريخهم، صفة فرضت نفسها فى أهم حقلين: حقل العلاقات القبلية، وحقل العلاقات الدينية والمذهبية. إنها صفة التعصب. والتعصب هو انغلاق فكرى وشعورى على الذات ورفض فكرى وشعورى لذات الآخرين. ويحار الإنسان من تجذر صفة التعصب المذموم فى أمة تدعى أن وجودها قائم على حمل رسالة إلهية للبشر كلهم؛ قائمة على التسامح الإلهى مع البشر فى شكل توجيهات واضحة كل الوضوح من مثل: وجادلهم بالتى هى أحسن، أو فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، أو ادفع بالتى هى أحسن (الحسنة) فإذا الذى بينك وبينه عداوة (لاحظ وجود عداوة وليس فقط خلاف) كأنه صديق حميم.

فإذا كانت أمة العرب قد اعتبرت أن روح ثقافتها هى ما جاء فى تلك الرسالة الإلهية المنزلة، فكيف سمحت وتسمح بأن تقوم العلاقات الاجتماعية فى مجتمعاتها على التعصب المنغلق المتزمت الأحمق، الذى هو نقيض لأى تواصل متفاعل متحاور مسالم؟

هل يريد الإنسان فى أيامنا أن يتعرف على مقدار التعصب الذى تحياه مجتمعاتنا العربية؟ ما عليه إلا أن يقرأ ويستمع إلى ما يكتب ويقال من خلال وسائل الاتصالات الإلكترونية المختلفة حتى يتعرف على الرذيلة الدنيئة التى يمارسها الملايين: رذيلة التعصب، التى تمارس باسم النقاء والطهر الدينى أو باسم الوطنية أو باسم الهوية القبلية أو باسم الانتهازية السياسية.

غياب التعصب، وبالتالى الانتقال إلى ممارسة التواصل، يحتاج إلى تربية إنسانية عقلانية أخلاقية، تبدأ فى البيت وتنضج فى المدرسة والجامعة وتنتهى فى مؤسسات المجتمع المدنى ومؤسسات سلطات الحكم. فالبيت الذى لا توجد فيه علاقات أخذ وعطاء، قبول ورفض، هو سجن. والمدرسة التى لا يكون هدفها الأساسى هو بناء القدرات الفكرية القادرة على ممارسة التحليل العلمى والنقد الموضوعى والتساؤل والاستقصاء والتجدد الدائم والانفتاح على الآخرين وعلى كل ما يحيط بالإنسان، هى مدرسة لا تعلم نبذ التعصب ولا تربى على التواصل. وينطبق الأمر على مؤسسات المجتمعات المدنية ومؤسسات سلطات الحكم، التى إن غابت فيها حرية التفكير والتعبير والحوار والمشاركة فى اتخاذ القرار، فإنها ستصبح واجهات خشبية ومياه آسنة تتعفن فيها الحياة.

***

اليوم ونحن نرى الغياب التام لممارسة فضيلة التواصل العقلانى الأخلاقى بين الأفراد والجماعات والسلطات فى طول وعرض بلاد العرب ندرك أن السكوت عن الرذائل فى الأيام العادية لحياة الأمم سيقود إلى وقوف تلك الأمم عاجزة ومعتوهة أمام الحرائق والأزمات التى يتفنن البعض فى إشعالها وتفجيرها.

هل هناك أفجع من غياب تام للقمة العربية، للجامعة العربية، للجبهات الوطنية، للتحالفات الإنقاذية فى أمة يراد لها أن تموت؟ غيابها هو دليل على التجاهل التام لفضيلة التواصل فى أيام الرخاء وأيام المحن.
علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات