التنمية بقوة الدفع الذاتى - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 2:45 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التنمية بقوة الدفع الذاتى

نشر فى : الإثنين 24 أغسطس 2015 - 5:55 ص | آخر تحديث : الإثنين 24 أغسطس 2015 - 5:55 ص

بعد أن أرسلت مقالى السابق إلى جريدة «الشروق» لإعدادها للنشر، لفتت نظرى عدة مقالات لكتاب معنيين بشئون التنمية تحمل كلها دعاوى لاتباع مناهج متكاملة ومعبرة عن الخيارات الجماهيرية، لكى تكون جديرة بالتواصل وتلبية الطموحات الشعبية التى ثار الشعب من أجل انتشال المجتمع المصرى من الأنماط المشوهة التى تمخضت عنها ثورة الردة فى 15 مايو 1971، وجعلت العقد الأول من الألفية نذيرا بتداعى جميع أركان البنيان المجتمعى، ثقافيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، بينما العالم من حولها ينشد تحقيقا لغايات تنموية حددت لها أهداف للعام 2015. وكان هذا أمرا متوقعا بعد أن ثبت إمكان تحقيق ما كان أقرب إلى المعجزة بإنهاء المرحلة الإنشائية لمشروع له موقعه البارز محليا وإقليميا وعالميا فى ثلث الزمن المقدر له بالمعدلات العادية، وساهم فى تخطى الوهدة العميقة التى كادت تفضى إلى اهتراء النسيج المجتمعى إلى الأبد.

***
كان أول الإسهامات الجديرة بالاعتبار مقال لكاتب رائد فى سبر أغوار مجاهل التطور الحضارى العالمى والتنمية المنظورين، وهو دكتور السيد ياسين، نشرته جريدة الأهرام فى 13 الحالى بعنوان «الإدارة الحازمة للتنمية الجماهيرية»، اعتمد فيه على المواجهة بين «التنمية من أعلى والتنمية من أسفل»، وانعكاس ذلك على جدوى الأخذ بأيهما عند صياغة قرارات التنمية. أثيرت تلك المفاضلة فى سبعينات القرن الماضى ضمن مراجعات لجهود التنمية التى بذلت فى الستينات، فأفضت – على حد قول ماكنمارا مدير البنك الدولى، إلى شيوع الفقر المدقع أو ما أسماه الاقتصادى الفرنسى الشهير شارل بتلهايم «الذى عاش فترة من حياته فى مصر» «تنمية التخلف». وبغض النظر عن الاختلافات حول تفسير المغزى الدقيق لتلك المقارنة، فإن دلالة عنوان المقال ومحتواه يؤكدان المعنى الذى عبرت عنه فى مقالى السابق، والذى يمكن تلخيصه فى أنه قد «دقت ساعة العمل الجماهيرى» وعلينا ألا نفلت الفرصة.

ثم تبع ذلك مقال لأحد أساتذة التنمية فى مصر والوطن العربى، دكتور عبدالشفيع عيسى فى أهرام 17/8، رسم فيه الملامح الأساسية لنواة استراتيجية تنمية شاملة. ثم عاد الدكتور ياسين فى 20/8 فأبرز ضرورة التدقيق قيما يسمى مشروعات قومية كبرى، وضرورة إحكام مسار التنمية دون استنفاد الوقت فى الانشغال بأمور قد يكون لها وزنها فى الظروف العادية، ولكنها تحجب الرؤية عن قضايا تتعلق بإعادة قاطرة التنمية إلى مجراها الذى انحرفت بشدة عنه. فالقضية تتجاوز مجرد حزمة مشروعات أو الربط بين الأنشطة والقطاعات. لعل السبب فى الصيت المدوى للسد العالى كان وصفه بأنه المشروع القومى الذى أكسب ثورة يوليو موقعا لا يمحى من ذاكرة التاريخ، ولكنه لم يكن قوميا بمعنى أنه كان مشروعا عملاقا حظى باهتمام جميع المواطنين والمنشغلين بهموم التنمية فى العالم «إن إيجابا أو سلبا كالبنك الدولى وفوستر دلاس»، أذكر أنه عندما ضاق الإدراك الذهنى الضيق لحسنى مبارك بالدعوة لمشروع قومى أسعفه الجنزورى بمشروع توشكى، فكانت النكبة مضاعفة لأنه وفر ستارا لتكريس تزاوج السلطة بالمال. ولم يظهر سوى «المشروع القومى لجمع القمامة» على لوحات تحملها عربات جمع القمامة ثم تلقى بها فى شوارع رئيسية كعباس العقاد، الذى حظى بعناية المسئولين، عندما كانت تمر به «ست مصر الأولى» فى طريقها إلى الوفاء والأمل سالبة إياه ممن رأتها ضرة. سيدة الطرب العربى وكوكب الشرق، فى سياق بناء العائلة الحاكمة «كما كان يحلو لأخيها على تسميتها وتشبيهها بالأسرة السعودية».

خلال الأسبوع الماضى نشرت أيضا مقالات أخرى أخص بالذكر منهما مقال للأستاذ حلمى شعراوى، مؤسس مركز البحوث العربية والأفريقية، فى الاتحاد 18/8 بعنوان: «الصين وعولمة طريق الحرير»، وله علاقة وثيقة بموقع مصر من شبكات الترابط العالمى وما يعنيه هذا لمستقبل المرور عبر مصر بنيلها وقناتيها، والثانى للدكتور جلال أمين فى أهرام 17/8 يتساءل عما حدث فى العالم وانتهى إلى أن المطلوب يتجاوز مجرد إصلاح اقتصادى إلى ما يمكن اعتباره ثورة روحية. ومن هنا تأتى أهمية إعادة النظر بصورة شاملة إلى أسلوب الحياة، وتجاوز أبعاد الاقتصاد والتنمية حتى بمفهومها البشرى المستدام. وسأرجئ التفاصيل إلى مقالات تالية.

***
ما أريد التركيز عليه هنا هو أن الحديث عن التنمية للمرحلة التى نعيشها الآن يتجاوز القوالب المألوفة التى تدور حول مشروعات، صغرت أو كبرت، منفردة أو مدرجة فى برامج. كما أنه يتجاوز المعالجة القطاعية، بأبعادها الفنية والاقتصادية. كما أنه يتعدى الحوار حول دور الفرد والقطاع الخاص بمجمله، والدولة وقطاعيها العام والمشترك. والأهم من ذلك كله ألا نقع أسرى فى قبضة المعالجة الكمية وما تعنيه من متاهات معدلات النمو والاستثمار ومصادر التمويل، وأنواع الروافد الخارجية المتمثلة فى معونة تقدمها الدول الأغنى إلى الدول محدودة الموارد المالية، أو القروض التى ذاق العالم النامى الأمرين منها فى الربع الأخير من القرن الماضى وما زال يرزح تحت أعبائها، أو الاستثمار الأجنبى المباشر الذى يحمل حقيبته على كتفه، لينتقى أعظم الفرص ربحية، فيمتص العائد الأوفر الذى تحتاجه الدول محدودة الموارد حاجة ماسة لاكتساب ما يعينها على التخلص من ضائقتها واكتساب حرية اختياراتها التنموية، بعيدة عن قبضة الترسانة العالمية التى تقودها الولايات المتحدة من خلال توافق واشنطن مع ربيبتها منظمة التجارة العالمية ومؤسسات بريتون وودز التى ترعى مصالح الأغنياء على حساب الفقراء من الدول ومن أبناء الدول.

كما أن الأمر يتجاوز ما تتوافق عليه الدول فى نطاق هيئة الأمم المتحدة، والتى ثبت المرة تلو المرة أنها تتجاهل توفير ما نادى به المغضوب عليه روستو من ضرورة الإعداد للمتطلبات الأولية للتنمية pre ــ conditions تمهيدا لمرحلة الانطلاق اعتمادا على قوة الدفع الذاتى. لقد بدأت تلك الهيئة باعتماد أهداف للتنمية فيما أسمته «عقد التنمية الأول» فى عام 1960. فاكتشفت قصور هذا المنهج ووقوع العالم النامى «بعد أن كان يسمى المتخلف نتيجة وقوعه فريسة الاستعمار المباشر» فتجلت نواحى القصور فى السبعينات ألمحنا لبعضها أعلاه. ورغم جهاد مصر ورفيقاتها فى حركة عدم الانحياز لاعتماد نظام اقتصادى دولى جديد، فإن الرأسمالية العالمية أحالت الأمر إلى استعمار جديد، وعجزت استراتيجيات التنمية لباقى عقود القرن الماضى عن كبح جماح الانزلاق نحو صيغة ثالثة للاستعمار عمادها احتكارات المعرفة. فلجأت إلى اعتماد مجموعة من الغايات objectives للألفية حددت لها أهدافا targets للعام 2015، ليحل هذا العام وقد اتخذت شبكات العلاقات الدولية والإقليمية مناحى مغايرة، أصابت مصر والوطن العربى بكوارث لم يتبين بعد كيفية معالجتها. وكما أشار الدكتور عبدالشفيع، أعادت المحاولة مرة أخرى بوثيقة بعنوان «أهداف التنمية المستدامة 2015ــ2030»، محذرا – بحق ــ من اكتفاء وزارة التخطيط بإعداد ورقة أو (رؤية) مناظرة مجاراة لما أسماه «الموضة الدولية».

إن التنمية هى عماد حركة المنظومة الوطنية التى تشمل مختلف مناحى حياة المجتمع، ولابد من معالجة شاملة، ليس فقط لكافة القطاعات والأنشطة، بل بتغطية جميع «الحيثيات» التى تؤمن سلامة القرارات المبنية عليها. إنها معالجة لا تقف عند «ماذا وكم» لتحدد كيف ومَن وأين ومع من فى العالم الخارجى. كما أن التمييز فيه لا يقتصر على الأجلين القصير والطويل، بل لابد من أن ينطلق من مرحلة إعادة بناء الدولة وشيكة الانهيار بكافة نواحى الحياة فيها، استعدادا لرسم مسار تكون فيه قادرة على مواصلة التقدم بقوى ذاتية وطيدة وليس بالجرى وراء من يبدى استعدادا للعون لنجده يتحول إلى نهب.

الأمر مطروح لحوار وطنى، وسأحاول – إن كان فى العمر ما يسمح – أن أساهم فيه فى مقالات تالية.

 

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات