صباح القسمة والنصيب - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صباح القسمة والنصيب

نشر فى : الجمعة 24 أغسطس 2018 - 10:05 م | آخر تحديث : الجمعة 24 أغسطس 2018 - 10:05 م

كان النسيمُ عليلًا والفرحةُ تملأ الوجودَ، وكلُّ شيء يسير وفقَ نظامٍ دقيق، يضمن للناس السعادةَ والسرور، وقد بدت نفيسة مُنشَرحة القلب، تنعكس على ملامحها بهجة العيد الوشيك؛ لا يخالطها هَمٌّ ولا يراوحها سوء، رغم اقتراب مَوعد سداد الأقساط، ورد ما عليها مِن ديون.

دبَّت قدماها على الأرض؛ مُنتشية مَزهوة، فقد صار من نصيبها رداءٌ نصفِ جديد، مُمتاز الخامة والمظهر. ابتاعته للتو مِن الرصيف القريب؛ حيث مارست حيلها البارعة ومناوراتها المدروسة، وأجبرت البائع على القبول بثمن أدنى مما كتب، غامزة بعينها ناحية البقعة الماثلة عند الإبط، ملوحة بخبرتها فى المستعمل؛ أو «الساكاند هاند» كما تفضل أن تسميه.

●●●

بدا لها الطقس بديعًا، يغري باستكمال السير، بدلًا مِن الحشر فى الميكروباص، وخسارة جنيهات ثلاثة. مرت فى طريقها بعمال الحيّ المجتهدين؛ يقف أحدهم بأعلى عربة النقل الضخمة، يمسك شيئًا يشبه الفأس، ويناوله آخر منشارًا، وحولهما يتحلق بقية العمال، يتصايحون بكلمات التشجيع ويدلون ببعض الإرشادات. راحت الضربات تتوالى والأغصان تتساقط والأوراق تملأ الأرض، فيما الأشجار التي انتهى تقليمها وتشذيبها، تقف مبتورة الأذرع، وقد تم تجريدها بمهارة مِن كل ما تملك. ابتسمت نفيسةُ شاعرةً بحجم المجهود الذي يُبذل، مُثمنة النوايا الخالصة رغم قبح المنظر.

●●●

عرجت بعيدًا عن الناصية التي اعتادت أن تتجنبها؛ إذ تفوح منها دومًا روائح حادة، يبعث بها صندوق القمامة الممتلئ عن آخره؛ لكنها وجدت المكان خاليًا والأرض جرداء والرائحة خفيفة لا تكاد تُذكَر، وقد ظهرت نبتةُ صبار باهتة مُحاطة بعدة أحجار، ولافتة ترجو المواطنين عدم إلقاء المُخلفات أسفلها.

تابعت مسيرتها فأدركت أن الصناديق جميعها قد اختفت مِن المنطقة. صناديقُ القمامة التي وضعها الحيّ فى كلّ مكان، وأقام حولها الأسوار الحديدية، وسلسلها فى قضبانها بحرص شديد، وصرح بإنفاق المبالغ الطائلة فى سبيلها، وأعلن دراسة المشروع بدقة، مؤكدًا حل أزمة النظافة من خلالها؛ أُزيلت على ما يبدو إلى غير رجعة، بعدما تجمَّعت أكوامُ القاذورات حولها، وصارت مرتعًا للحيوانات الجائعة، وقبلة للهوام والحشرات الزاحفة، وأحيانًا للبشر.

●●●

تذكرت نفيسة خبرًا عن إسناد مُهمة النظافة لشركة مُستجدَّة، فاطمأنت نفسها وزاد سرورها بما قسم الله، وقد أحست بالامتنان للإخلاص فى العمل والتفاني فى أداء الواجب، مهما غامت الظروف.

●●●

أبصرت فرعًا إضافيًا مِن أفرع الجمعية الاستهلاكية، وقد تم افتتاحه للتو وبدأ فى استقبال الزائرين؛ فقررت أن تنفق الجنيهات الثلاثة داخله. لم يكن عبور الشارع بعد توسيعه سهلًا؛ إذ نسيت الهيئة المسؤولة أن تضيف الإشارات، وأن تتحسب لوجود مشاه قد يرغبون فى الوصول إلى الضفة الأخرى، لكن هذه الأمور البسيطة لم تكن لتوقفها؛ أدارت وجهها عن العربات المتسابقة، ونظرت فى الاتجاه المُعاكس، ثم انطلقت تخترق الشارع فى ثبات، تتلبسها روح قتالية نبيلة، مُتمتمة فى ورع وتسامح: الأعمار بيد الله.. كل شيء قسمة ونصيب.

ما إن خطت من الباب حتى أتتها رائحة نفاذة ليست بغريبة عنها، أجبرتها على الشهيق، ثم استخدام فمها فى التنفس بدلًا مِن أنفها. كان التصميم القديم الذي أُلغي مِن قبل، وأُعيد تخطيطه مع تطوير فروع الجمعية التي تعرفها؛ قد عاد إلى الوجود. منفذ اللحوم العارية مفتوح على ثلاجة الأجبان والألبان وأواني المخللات المكشوفة، تجاورهما أطباق الخضروات وأقفاص الفاكهة، فيما تسهم معهما الطيور المجمدة بنصيب، ليتخلق مزيج مِن الروائح لا مثيل له فى الكَون.

●●●

لم تجد فى نفسها ميلًا للشراء؛ فاحتفظت بجنيهاتها مُغادرة المكان، وعادت تمد الخطو بإصرار، وتتخيل صورتها بالرداء الجديد صباح العيد، فيما توهجت الأشجار الكتعاء، وبدا الشارع أقل اتساعًا مع تراقص أفواج العابرين. صباح القسمة والنصيب.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات