ماذا بعد؟
هذا هو السؤال الأكثر جوهرية بعد موقعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، التى لقيت فيها الإدارة الأمريكية هزيمة سياسية موجعة على خلفية قرارها الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل والشروع فى نقل سفارتها إليها.
على الرغم من الأجواء المحمومة والضغوط المعلنة وغير المعلنة، التى وصلت إلى حدود الترهيب والتهديد بصورة غير مسبوقة، فإن أغلبية كبيرة (١٢٨ دولة) رفضت القرار الأمريكى، أو المس بالوضع القانونى للمدينة المقدسة بالمخالفة للقوانين والقرارات الدولية.
كان ذلك تأكيدا من المجتمع الدولى على الحق الفلسطينى فى مواجهة آلة الاحتلال الإسرائيلى، بقدر ما عكس عزلة الدبلوماسية الأمريكية، التى انتهجت أداء متعجرفا وسوقيا لا يليق بدولة عظمى، كالتهديد بوقف المساعدات عن الدول التى تناهض قرارها وتمويل المنظمة الدولية كلها.
ما جرى له قيمته السياسية والقانونية والأخلاقية، لكن القرار غير ملزم ومعركة القدس مفتوحة على سيناريوهات متناقضة، فرص حقيقية ومنزلقات ماثلة.
أكثر السيناريوهات ترجيحا أن تواصل الولايات المتحدة ضغوطها لمنع أى استثمار سياسى فلسطينى للقرار الأممى كاكتساب العضوية الكاملة بالأمم المتحدة، تأكيدا على أنها دولة تحت الاحتلال تحظى بالاعتراف الدولى، أو ملاحقة جرائم الحرب الإسرائيلية أمام الجنائية الدولية.
الاستثمار السياسى ممكن، لكنه لن يكون سهلا بأى حال، فمن مقتضيات نجاحه الحفاظ على قوة الضغط التى تبدت فى الجمعية العامة ــ وهذه مسألة دونها تناقضات وصراعات بين أطراف عديدة فى الإقليم وداخل الساحة الفلسطينية نفسها.
يصعب أن تلتئم مرة أخرى على نفس درجة التماسك الجبهة الدولية التى صاغت ذلك النصر الدبلوماسى، فالتباينات والتناقضات داخلها تجعل من الصعب الرهان عليها خارج رمزية القدس، التى لا يستطيع أحد فى العالمين العربى والإسلامى تحديها، أو إنكارها.
بأى شروط ووفق أى رؤى يمكن إعادة بناء التماسك الدولى وراء القضية الفلسطينية فى أى مواجهات مقبلة؟
هذا سؤال حاسم مفتاح الموقف فيه ما يجرى داخل الأرض الفلسطينية المحتلة.
إذا توقفت الانتفاضة الفلسطينية عند هذا الحد بدعوى أنها حققت أهدافها، فإنه استنتاج متعجل يسحب على الفور من فوق مائدة الحسابات الإقليمية والدولية أقوى أوراق الضغط والتعبئة وإلهام التماسك الواسع وراء أى تطوير دبلوماسى يستثمر فى القرار الأممى.
كان أفضل ما فى هذه الانتفاضة ما أظهرته صورها من بسالة المواطن الفلسطينى العادى فى مواجهة آلة البطش الإسرائيلية.
للصور قوتها فى إلهام الضمير الإنسانى ورفع مستويات التضامن إلى ضغوط على دول وحكومات يصعب، ردها أو تجاهلها.
إنهاء الانتفاضة هزيمة مبكرة تسحب من القرار الأممى قوة زخمه فى تطوير الهجوم على جبهات جديدة تضع الولايات المتحدة مجددا فى الزاوية.
وإذا لم تبد الفصائل الفلسطينية الرئيسية استعدادا أكثر جدية فى ترتيب البيت من الداخل وبناء تصورات مشتركة تضفى احتراما وتعاطفا، فإن أثر القرار الأممى قد يتبدد سريعا.
هذه ليست مسألة هينة بالنظر إلى التعقيدات والحساسيات المقيمة والمصالحة الفلسطينية الجارية برعاية مصرية شبه متوقفة فى انتظار دفعة جديدة.
فضلا عن ذلك كله فإن أية قراءة متأنية لخريطة التصويت فى الجمعية العامة تكشف عن ثلاثة أمور لافتة.
الأول: أن الدول الأوروبية الرئيسية، التى أيدت القرار الأممى فى مواجهة حليفها التقليدى الأمريكى، ترجع أسبابها إلى خشيتها من تفاقم أزمة القدس إلى حروب دينية تضر بأمنها واستقرارها ومصالحها فى الشرق الأوسط.
لم تكن قضيتها التزام القوانين والقرارات الدولية بقدر درء المخاطر المحدقة، وقد كانت مظاهر الغضب فى الأرض المحتلة ــ بالذات ــ داعية للتحسب من زلازل وبراكين، وقد كان بدائية الأداء الأمريكى داعيا إضافيا لاستشعار حجم المخاطر المقبلة.
على الرغم من ذلك حاولت ألا تتصدر المداولات، أو أن تصل المواجهة المباشرة مع الإدارة الأمريكية إلى تبادل الاتهامات المعلنة.
ويبدو أنه حدثت تفاهمات ما فى الكواليس لمنع أى صدامات وملاسنات.
ذات الخط اتبعته روسيا ودول عربية وإسلامية.
والثانى: أن عددا لا يستهان به من الدول امتنعت عن التصويت (٣٥ دولة)، وعددا آخر (٢١ دولة) غابت عن الجلسة الطارئة للجمعية العامة.
لا الذين امتنعوا وافقوا على القرار الأمريكى والمداخلات التى أدلوا بها لتعليل مواقفهم أدانت موضوعيا ذلك القرار، لكنها تجنبت الصدام معه بحجة أن قرارا مضادا قد يعرقل فرصة تسوية الصراع الفلسطينى الإسرائيلى.. ولا الآخرون رغبوا أن يكونوا طرفا فى تلك المواجهة فآثروا الغياب.
وقد كانت قضية الولايات المتحدة قبل التصويت مباشرة خفض نسبة دعم القرار الأممى الذى يناهضها، فالأمر كان محسوما.
والثالث: أن الهزيمة الدبلوماسية للولايات المتحدة ممكنة، فهى ليست بالقوة التى تجعل كلمتها قدرا نهائيا، كما أن إلحاق هزيمة مماثلة بإسرائيل متاحة.
يكفى النظر إلى قائمة الذين صوتوا ضد القرار الأممى الجديد (٩ دول) هامشية لا يكاد يسمع بأسمائها أحد باستثناء أمريكا وإسرائيل.
غير أن ذلك لا ينبغى أن ينسينا حقائق الموقف الراهن وهشاشة الموقف العربى العام ومدى قدرة الإدارة الأمريكية على الضغط لمنع أى هجوم دبلوماسى فلسطينى مؤثر، يستثمر القرار الأممى أو ربما العمل من الآن لإجهاض أية مفاعيل ممكنة لهذا القرار وإلغائه مستقبلا، كما حدث مطلع تسعينيات القرن الماضى بإلغاء قرار للجمعية العامة اعتبر الصهيونية عنصرية مثل الفاشية والأبارتاهيد بعد ستة عشر عاما من إصداره قرب منتصف السبعينيات.
كان ذلك القرار الملغى نزعا لأية شرعية عن الدولة العبرية وتقويضا لأية حجة تأسست عليها.
لماذا وكيف جرى التراجع عن أهم قرار يناصر القضية الفلسطينية فى تاريخها كله؟
لأن أصحاب القضية أنفسهم خذلوها، مصر الدولة العربية الأكبر والأهم خرجت من الصراع العربى الإسرائيلى بصلح منفرد، ودول عربية أخرى هرعت للتطبيع السرى، والقيادة الفلسطينية أخذت المنحى نفسه بحثا عن تسوية ما.
المندوب الإسرائيلى فى الأمم المتحدة أشار بعنصرية مفرطة من فوق منصة الجمعية العامة إلى أن القرار الجديد سوف يلقى المصير نفسه فى «مزبلة التاريخ»!.
على نفس المنوال وصف رئيسه «بنيامين نتنياهو» الأمم المتحدة كلها بأنها «بيت الأكاذيب»، كما لم تتورع المندوبة الأمريكية «نيكى هيلى» عن إهانتها.
إذا لم نثبت ــ هذه المرة ــ أننا جديرون بتحمل مسئولية مثل هذه القرارات التاريخية فإن كل معنى يتقوض وكل رهان يضيع.