مشاهدتان حزينتان فى جنازة بكنيسة - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 10:38 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مشاهدتان حزينتان فى جنازة بكنيسة

نشر فى : السبت 26 أكتوبر 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 26 أكتوبر 2013 - 8:00 ص

المشاهدة الأولى: أثناء حضورى جنازة عمة زميلتى ومديرة مكتبى فى كنيسة مارى مرقس بضاحية مصر الجديدة (القاهرة) اقتربت منى سيدة من بين الحضور مستعلمة عما إذا كان بإمكانها أن تطرح على سؤالا، وحين وافقت متوقعا استفهاما إما عن موقفى من ترتيبات ما بعد ٣ يوليو ٢٠١٣ أو عن رأيى فى الأحداث الجارية حمل لى صوت السيدة الرقيقة اتهاما بصيغة سؤال «هو حضرتك إخوان مسلمين؟»، وهو ما نفيته بعبارة «لا يا فندم» القصيرة.

طبعا لم يتح لى السياق الحزين لتبادل الكلمات بين السيدة المشار إليها وبينى أن أكرر على مسامعها بعض مما أسجله بانتظام كتابة من كون رفض تدخل الجيش فى السياسة ومعارضة فض الاعتصامات بالقوة وإدانة انتهاكات حقوق الإنسان وممارسات الدولة الأمنية لا علاقة لهم بالانتماء التنظيمى أو السياسى، بل بدفاع عن مبادئ ديمقراطية وليبرالية أثق فى أفضليتها الأخلاقية وقدرتها الفعلية على تجنيب الدولة والمجتمع فى مصر مخاطر الأزمات الحادة التى تحيط بهما اليوم.

ولم يتح لى أن أوضح لها أن خطر انتهاكات الحقوق والانتقاص من الحريات يتمثل فى استحالتها إلى واقع سياسى ضاغط واستثنائى يهدد كل مواطنة وكل مواطن بغض النظر عن الرأى والموقف وإلى جغرافيا مجتمعية خانقة تتجاوز الحدود الراهنة لمواقع تأييد ترتيبات ما بعد ٣ يوليو ٢٠١٣ أو رفضها، وأن غياب العدل حين يمسك بالدولة وبفعل نخب الحكم المسيطرة على مؤسساتها وأجهزتها تتسع دوائره الكارثية حتما، وقد تتورط فى ظلم وتهديد بعض من يصفقون ويهتفون أو يؤيدون صمتا انتهاكات اليوم.

ولم تسمح لى حالة السأم التى بت أعانى منها على وقع رواج مقولات فاشية الإقصاء وتعميم الاتهام والعقاب الجماعى بأن أخاطب النزعة الإنسانية والعقلانية لدى السيدة الرقيقة عبر تسجيل رفضى للأخطاء الكارثية التى ارتكبتها جماعة الإخوان والتشديد على ضرورة المحاسبة القانونية المنضبطة والناجزة لمن يثبت عليهم الخروج على القانون أو التورط فى العنف تحريضا وممارسة، والتأكيد فى نفس الوقت على خطورة شواهد العنف الرسمى وخطأ انتهاك حقوق الإنسان والعصف بسيادة القانون والانتقاص من حريات المنتمين للجماعة الذى تتورط به بعض مؤسسات الدولة.

كذلك لم تمكنى حالة السأم هذه من أن أذكرها بحقيقة معارضتى للكثير من سياسات وممارسات الإخوان واليمين الدينى طوال الفترة الممتدة منذ استفتاء التعديلات الدستورية فى مارس ٢٠١١، مرورا برفضى للإعلان الدستورى الاستبدادى ولدستور ٢٠١٢ وإلى مشاركتى فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ ــ تلك الحقيقة التى بدت ذاكرتها لدى السيدة المحترمة، وكأنها حذفت على وقع الضوضاء الزائفة لخبراء الخلايا النائمة والطابور الخامس وغيرهم من المتورطين الجدد فى تشويه وتزييف الوعى ــ وبأن مبادئ الديمقراطية والليبرالية كما أفهمها تلزمنى بالدفاع عن حقوق وحريات من أختلف معهم فى اليمين الدينى وبمواجهة نزع إنسانيتهم وبتمكينهم من المشاركة العامة والسياسية شريطة الاحترام الكامل للسلمية ونبذ العنف ولسيادة القانون وقبول الفصل بين الدين والسياسة وبين الدعوى والحزبى بحيث تتحول الهوية الدينية هنا إلى مرجعية قيمية وفكرية ويتوقف التوظيف الزائف للدين فى السياسة الذى يتناقض مع الحرية والتعددية ومع إقرار مواطنة الحقوق المتساوية دون تمييز بين المصريات والمصريين المسلمين أو الأقباط أو اليهود أو البهائيين أو غيرهم.

•••

المشاهدة الثانية: عندما انتهت الصلاة الكنسية والطقس الجنائزى وهم الحضور بالمغادرة، استرقت السمع إلى جزء من حوار هامس بين رجل مسن وسيدة متقدمة فى العمر وكان من بين ما قاله الرجل وبوجه امتلكه حزن عظيم «الحمد لله إن ما اتضربش علينا نار واحنا خارجين من الكنيسة» وعلقت السيدة «ايو فعلا، ما حدش ناقص» مواسية.

والسياق الدلالى لهذا الجزء من حوار الرجل والسيدة يؤشر إلى واقع مجتمعى وسياسى مؤلم وخطير يتجاوز الاعتداء الإجرامى الاخير على كنيسة السيدة العذراء فى منطقة الوراق (الجيزة) الذى مثل على الأرجح العنصر الزمنى المحفز لجملتى الرجل والسيدة المشار إليهما أعلاه. الزمنى. فسلسلة الاعتداءات الإجرامية التى اتجهت بعد ٣ يوليو ٢٠١٣ إلى كنائس الأقباط خاصة فى صعيد مصر وأسقطت شهداء وجرحى، وأضرت بالمنشآت والمصالح دفعت مجددا بالعنف الطائفى البغيض إلى الواجهة المجتمعية، واستدعت جميع النواقص الكارثية فى التعاطى معه.

فالتحريض الطائفى والترويج لمقولات فاشية وغير إنسانية تنتقص من حقوق وحريات المصريات والمصريين الأقباط ومن فرض مواطنة المساواة الكاملة تحولا خلال الفترة الماضية إلى فعل سياسى تورطت به بدرجات مختلفة وبأشكال متنوعة بعض جماعات وأحزاب اليمين الدينى ودوائر إعلامية قريبة منها، تماما كما تورطت ذات الجماعات والأحزاب فى التحريض المذهبى (ضد الشيعة) والتحريض الفكرى (ضد الليبراليين والتيارات العلمانية). واستمرار غياب سيادة القانون وتراجع المحاسبة القضائية الناجزة والمنضبطة للمتورطين فى أعمال العنف الطائفى تنفيذا وتحريضا وتبريرا، وهى الظاهرة التى تعود بداياتها إلى سبعينيات القرن العشرين، صنعا معا حالة مجتمعية مريضة بدت معها أعمال العنف الطائفية محدودة الكلفة وقابلة للتكرار طالما اقتصرت التداعيات على الشجب والإدانة واحتفاليات الوحدة الوطنية المعتادة.

أما العجز العام خلال الفترة الماضية ــ بعد ثورة يناير٢٠١١ ــ عن الانتصار لحقوق الأقباط وللمساواة الكاملة بين جميع المصريات والمصريين، بإقرار قوانين وإجراءات مناهضة للتمييز وقواعد قانونية موحدة لحماية ممارسة الحريات والشعائر الدينية (بناء وصيانة دور العبادة) وباعتماد دستورى صريح لمبدأ المساواة وتجريم التمييز على أساس الدين أو المذهب ودون

إقصاء غير المنتمين للديانات الكبرى الثلاثة (الإسلام والمسيحية واليهودية)، فرتب سلسلة من الإحباطات المتتالية للأقباط ــ لهم بصفة خاصة وفى العموم لغير المسلمين ــ الذين بدوا بعد ثورة يناير أكثر حرصا على المشاركة العامة والسياسية خارج أسوار الكنائس وبحثوا عن الانخراط فى الأحزاب وفى الفعاليات المجتمعية.

•••

والنتيجة كانت هى صدمتهم فى برلمان جاء فى ٢٠١١ــ٢٠١٢ ضعف جدا تمثيلهم به ورفض مقترحات تشريعية قدمت لإسقاط خانة الديانة من البطاقة الهوية الشخصية ولإقرار قانون موحد لدور العبادة، وفى دستور مرر فى ٢٠١٢ مهد للدولة الدينية ولم يلتفت على الإطلاق لضرورة اعتماد التمييز الإيجابى لرفع نسب تمثيل الأقباط وغيرهم فى المؤسسات التشريعية والتنفيذية والأجهزة العامة، وفى رئيس منتخب لم يرد بين ٢٠١٢ و٢٠١٣ أن يصبح رئيسا لكل المصريات والمصريين، وفى يمين دينى كان حاكما بين ٢٠١٢ و٢٠١٣ وتورط بفاشية مرعبة فى التحريض الطائفى والمذهبى وفى التحليل الاخير فى نزع الإنسانية عن الأقباط والشيعة والبهائيين وغيرهم، وفى قوى وأحزاب مدنية عجزت خلال الفترة الماضية فى الضغط الفعال للانتصار للمساواة وتقبل اليوم وهى تسيطر على عملية تعديل الدستور أن تحتكر شئون الأقباط من قبل مؤسساتهم الدينية.

والنتيجة كانت هى إعادة إنتاج مقولات الخوف التقليدى من السياسة لدى الأقباط، وبحثهم عن أمن يضمنه المركب العسكرى ــ الأمنى الذى عاد للسيطرة على الدولة والشأن العام وأمات السياسة والذى أبدا لن ينتصر للحقوق وللحريات المتساوية أو يمكن فعلا للدولة المدنية ولمجتمع المواطنة الذين نحتاجهما جميعا للنجاة من الأزمات الراهنة ولإنقاذ السلم الأهلى والعيش المشترك ولاستعادة إنسانيتنا الضائعة.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات