انطلق اللاعبُ بالكُّرة مُتجنبًا تمريرها لأحد زملائه. ضاعت منه وَسَط المُدافعين وكان بإمكانه أن يُسهِمَ فى إحرازِ هَدف؛ لو تخلَّى عن طَمعِه فى الانفراد بالمَرمى والتَّسجيل. صاح أحد مُتابعى المُباراة: طمَّاع وخايب. انتحل آخرون للاعب أعذارًا مُتنوعة، لا تنفى عنه الصِفةَ أو تعفيه من المسئولية؛ لكنها تتعلق بمهارته وبراعةِ تسديداته، والحق أن الطَّمعَ يَجد فى العادة ما يُبرره، وما يُوفر له إطارًا أنيقًا من الدَّعم والتأييد.
* • •
تقولُ مَعاجم اللغةِ العربيةِ أن الطامع هو هذا الذى تتجاوز رغبتُه الحدَّ المُقرَّر وتتعدَّى المُتفق عليه، المَطمُوع فيه مَفعولٌ به والطَّمع مَصدر، وإن وُصِفَ شخصٌ بأنه طمَّاع بتشديد الميم؛ فصِيغةُ مُبالغة تشير إلى رغبةٍ لا تهدأ فى الحصول على المَزيد، أما الطمعان؛ فصفةٌ مُشبهة تدلُّ على الثُّبوت، مثلها مِثل الغلبان والجَوعان.
* • •
قد يُساوم الواحد طمعًا فى مَيزاتٍ إضافيةٍ داخل نطاقِ عَمله، وقد يَطمع فى فُرصةٍ ليست له ويَسعى لاقتناصِها بشتَّى الوسائل؛ لكن المثلَ الشهيرَ يُؤكد أن الطَّمعَ يقلُّ ما جَمَع، والقَّصد التنبيهَ إلى الوقت الذى يَجب أن يتوقَّفَ فيه المَرءُ عن اتّباعِ أطماعِه ويَقنع بما لديه تَجنُّبًا للخَسارة؛ فهذا الذى يَسعى إلى الحصول على كلّ شىء، ويَميلُ إلى الاستئثار بما حولِه وحِرمان الآخرين مِن مُشاركته؛ غالبًا ما يرتكبُ الأخطاءَ التى تأتيه بعكسِ ما اشتهى.
* • •
المَطامِع هى المَكاسبُ البرَّاقة التى يتطلَّع إليها الناس، والتى تُمثِل مَوضعَ اشتهاءٍ ورَغبة. كثير الغزواتِ والحَملاتِ العَسكريَّة التى أرسلتها دولٌ كبرى فى أزمنة ماضِية؛ لتنتهكَ بها حدودَ أخرى، وتَدخلَ أراضيها تحت دَعاوى مُختلفة؛ قد حَملت مطامعَ اقتصاديةٍ ضَخمةٍ لا يُمكن إنكارها. لم تختفِ هذه المطامِع أو تتراجَع بمُرور الوقت؛ لكن الوسائلَ اختلفت. تنحَّت الجُّيوشُ المُحارِبة جانبًا، وتحوَّل فرضُ الهَيمنةِ على المناطق البِكر ــ بمَواردها وثرواتها التى لم تُستغَل بعد ــ إلى طُرق أقلّ مُباشرَةً وأكثرَ مَكرًا وخِداعًا؛ يرتدى فيها المُحتلُّ مُسوحَ النقاءِ والبراءةِ؛ فيما يُخفى وراءَ ظَهرِه أدواتِ السَّلب والنَّهب.
* • •
عادة ما تأتى النصيحةُ: «ما تطمَّعش الناس فيك»، حين يُعطى المَرءُ بغير حِساب ويُغدق على مَن حَوله؛ سواء امتلك الفائضَ الوَفير أو لم يَمتلك شيئًا. العطاءُ خِصلةٌ حَميدة، والطَّمع غَريزةٌ تتعذر مُقاومتُها، والأخذُ بالمظهَر عادةٌ مُتجذِرة شِبه ثابتة؛ يَصعب تركُها ما لم يُعمِل المَرءُ عقلَه بصفَة مُستمرَّة، فيبحثُ وراءَ السَّطح ويُحلل المُعطيات ويَصل إلى النتائج المَنطقية.
* • •
قد يُصبح هدفُ الطَّمع مَعنويًا وحَسب؛ كأن يطمعَ الواحد فى كَرم أخلاقِ آخر، فيتمنى أن يُسامحه على فِعلٍ بَغيضٍ ارتكبه، أو يتغاضَى عن قولٍ قبيحٍ تلفَّظه، أو يتجاوزَ عن سوءِ فَهم أخلَّ بالثقةِ بينهما وبثَّ الشقاق. الطَّامِع فى هذه الأحوال خَجِلٌ من نفسِه، يَطلب ما يُريد على استحياء؛ على عَكس ما يأتى به صاحبُ الأطماع الماديَّة البحتة؛ المُتمتّع فى العادة بقدرٍ مُعتبَر من الجَرأة.
* • •
يَصِف الناسُ كلَّ طمَّاع بأن عينِه فارِغه؛ لا يملؤها إلا التُّراب، والقَّصد أنه لا يقنع بشىء ولو كانت لديه وَفرةً، ولا يَجد الكفاية مهمًا جَنى من مَكاسِب، والمُفرَدةُ الأدقُّ هنا هى الجَشَع بمُشتقاتِه كافة. الشُّعور بالإشباع والرِّضاء مُريح ولو كان الحَصاد قليلًا، ولا عَجب إن وَصَفَت الحكمةُ القَّديمة «القناعَة» بأنها كنزٌ لا يَفنى.
* • •
فى بعضِ الأحوالِ تحدُّ القناعةُ من الطُّموح؛ فيرضى الواحدُ بما لديه رغم أنه لا يَستوفِ مُتطلباته الأساسيَّة ولا يَستُر حياتَه ويَحجِبُ عَورَاتها. يقبع فى مكانه عازفًا عن الكفاحِ فى سَبيل تحقيقِ شروطِ مَعيشةٍ أفضل، ويُعلن اكتفاءَه بالمَوجود. القناعةُ هنا عبءٌ ثقيلٌ، وقليلٌ من الطَّمع فى تحسينِ الأوضاعِ لا يَضُر؛ لكنها الرغبةُ فى اختيارِ الطَّريق الأسهلِ.
* • •
السُّلطة مَطمَع شديدُ الجاذبية، يُغرّر فى كثير الأحيان بصاحبِه ويُغريه بالمزيد. يشعر القابض على زمام الأمور دومًا بالتفوق والقوة؛ وكلاهما مُحبب مَرغوب، وكثيرًا ما يتودد الناس إليه ويتلطفوا معه وقد يداهنوه؛ كى يتحصلوا على بعضِ المنافِع والمَيزات. ربما تَجتمِع أطماع الأطرافِ كافة وتلتقى، وتصنع شبكةَ مَصالح مُخيفة؛ يَسقط فيها من لا ناقة له ولا جمل.
* • •
يطمع بعضُ الناسِ فى امتلاك سُبُل رفاهة أعظم، وثروات لا مَحدودة تُمكنُهم من اقتناءِ ما تراه العينُ وتَستملِحه بغير حساب. بعضٌ آخر يَطمَع فى مَنصِب أعلى ومَكانة أهمّ وأرفع، وبعضٌ ثالثٌ يَطمَع فى سَكنٍ مُناسِب ومَساحة حريَّة مَقبولة وفُرَص حِراك اجتماعيّ مَنطقيَّة عادلة. هناك أيضًا مَن تنحصر مَطامِعه فى حدود دنيا؛ لا تتعدَّى كفاية نفسِه وأحبائه شرَّ العَوَز والسؤال. ليست الأطماع كلُّها مُتساويةً فمنها المَشروع وغير المَشروع، الزَّاهد المُتواضِع والشَّرس المُتعالى؛ ومِن عَجَب أن يتحقَّقَ ثانيها بسهولةٍ فيما يبقى أولها عَصيًا على النوال.