المصعد.. عالم سعيد - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 4:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المصعد.. عالم سعيد

نشر فى : السبت 25 ديسمبر 2021 - 8:25 م | آخر تحديث : السبت 25 ديسمبر 2021 - 9:49 م
اعتاد الفُرْجَة على الدنيا من خلال كابينة المصعد الضيقة، صعودا وهبوطا، إذ أمضى أكثر من نصف عمره كعامل أسانسير. انتقل من الشغل فى مشفى إلى أبراج يختلط فيها الإدارى بالسكنى. تغيرت الأحوال والزبائن، وظلت على لسانه حكمة واحدة «الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يعرف قيمتها إلا المرضى»، كان يرددها فجأة دون سابق إنذار، كمن يذعن بالحق. صار خبيرا بالوجوه التى يتأملها يوميا عن قرب بحكم المساحة الصغيرة التى تجمعهم ولو للحظات، فالمصعد يضم بشرا مختلفين، ننسى بسرعة ما يمر بداخله، لكن قد تحدث فيه أشياء عديدة ومثيرة.
يجد نفسه أحيانا بمواجهة أحدهم، تكاد «الكروش» أن تتلامس من فرط الزحام، حينها يراقب عن كثب ردود أفعال البعض هربا من هذا التقارب الذى فرضته الظروف. سعيد، وهذا اسمه، يهوى القراءة ومتابعة الاكتشافات الحديثة. يغوص فى كتب الفراسة وعلم النفس والسلوك لكى يفسر لماذا يحملق الناس فى سقف الأسانسير أو ينظر الكثيرون إلى العلامات التى تبين إلى أى طابق وصلوا، فى حين يركز آخرون على العبارة التى تشير إلى سعة المصعد وعدد الأشخاص المسموح لهم بالركوب. فَهَم سعيد تركيبة الشخصيات وما تعبر عنه لغة الجسد بشكل أو بآخر: من يقف إلى جوار الباب مباشرة وينتظر الخروج فور أن يفتح هو قليل الصبر وربما متسرع، من يختار أن يستند إلى جدار المصعد يظن أنه اتخذ لنفسه موقعا استراتيجيا، فهو غالبا من هواة التمايز والسلطة، وهناك أيضا من يرفض التواصل فيعطيك ظهره ومن يشبك ذراعيه أو «يربعهما» كما نقول لكى يحمى مساحته الخاصة، بخلاف الكائنات الودودة التى تتبادل الابتسامات والسلامات مع من لا تعرف، فلديها مزاج طيب ورغبة فى إطالة الكلام.
•••
رائحة دخان سيجار كثيفة ملأت الكابينة التى تحولت فى الآونة الأخيرة إلى واحدة من أكثر الأماكن خطورة بسبب الكورونا، فهى مغلقة ولا يتجدد هواؤها باستمرار. بعض السكان والمترددين على المبنى يتفادون لمس الأزرار ويطالبون بتطهير الأسطح، وفى المقابل لا يرتدى آخرون الأقنعة الواقية أو يفعلون مثله حين يُخرج منخاره قليلا كى يتنفس. هنا أيضا تتباين ردود الأفعال ويتعامل كل فرد مع الموقف على طريقته.
هو يخاف أحيانا، فقد قرأ أن الرذاذ قد يبقى عالقا فى الجو لمدة ثلاثين دقيقة داخل المصاعد. تعتريه مشاعر متضاربة، لكن يفضل عدم التفكير فيها، فهذا مقر عمله وأكل عيشه، الذى تعود عليه وصار يبدو له أكبر مما كان عليه أول مرة دخله، رغم أن شيئا لم يتغير، الديكور كما هو: مرآة مستطيلة وإضاءة نيون باهتة وكتابات على الحائط خَلَفها البعض كدليل على مرورهم من هنا، ليحثوا على ذكر الله وحمده أو ليخلدوا أسماء حبيباتهم.
حياته معلقا بين السماء والأرض، معظم ساعات النهار والليل، جعلته متمعنا بشدة فى أبسط الأمور، حتى تلك الجمل المكررة التى يتبادلها الناس حول الطقس والأيام الكبيسة والسنوات العجاف، كما شهد حالات إنقاذ وسمع الحكايات حول الناجين من الموت والضحايا والأشباح التى ارتبطت بمصعد البناية. ذات يوم لم تطلع له شمس، انكسر موس الحلاقة فى يده واضطر إلى الذهاب للشغل وقد حلق نصف ذقنه فقط. أغلق سحاب الجاكيت ليحتمى من البرد ولف الشال حول عنقه، لكنه لم يكن مرتاحا لما هو آتٍ، وبالفعل صدق إحساسه، فما أن وصل إلى باب المصعد حتى لاحظ أنه محشور بين السابع والثامن، وكان عليه أن يتحقق بنفسه، وإذا به يجد رجلا مقلوبا على وجهه، ساقاه فى الهواء، وقد فقد فردة حذائه. كاد عامل توصيل أحد مطاعم البيتزا الشهيرة يلقى حتفه، ذلك الصباح، لولا وصول سعيد فى وقته ليلعب دور المنقذ الهمام، وهى ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، فأعطال الأسانسير مزمنة.
لن ينسى أبدا طيلة ما عاش منظر الفتاة التى عثر عليها بعد عودته من الإجازة. مكثت حبيسة المصعد لمدة أربعة أيام، بحث عنها والدها فى كل مكان، ونفى الحارس ومندوبو شركة المصاعد وجود أحد فى الكابينة المعطلة بسبب الإهمال، ربما كى لا يتعرضوا للمسئولية، لكن فى الحقيقة كانت الفتاة بالداخل، مستلقية على الأرض، ترتعش من البرد والجوع. لم تقاوم النعاس، بل على العكس كانت تسعى للهروب من الرعب الذى تملكها واستسلمت إلى سبات عميق، أخذت تتنفس ببطء وراحت تشغل تفكيرها باللعب فى رباط الحذاء لأيام وساعات، محاولة إقناع نفسها أنها ستنجو لا محالة وأن والدها لن يتركها.
•••
شكر فى سره وقتها إلايشا أوتيس الذى اخترع جهاز أمان يمنع المصاعد من السقوط لو انقطعت كابلات الرفع. قاده حب الاستطلاع إلى القراءة حول هذا الرائد الأمريكى الذى دشن اختراعه أمام الجميع بقصر الكريستال بنيويورك عام 1854، فقبله كانت هناك رافعات تعمل بتقنيات مختلفة لكنها كانت أكثر بدائية ومستخدمة فقط فى القصور وبيوت الوجهاء. قرأ عن «الكرسى الطائر» الذى كان يستقله لويس الخامس عشر حتى غرفة نوم عشيقته بقصر فرساى، وعن التغيير الذى أحدثه اختراع أوتيس فى مجالات الصناعة والعقار والعمران، إذ صار هناك ناطحات سحاب وبنايات ضخمة واختلف تنظيم العمل داخل المصانع وانتعشت السوق العقارية. تولت الشركة التى أسسها أوتيس مهمة إنشاء مصعد بأول ناطحة سحاب أمريكية عام 1885، ثم مصاعد برج إيفل بفرنسا عام 1889، وهكذا راح سعيد يسرح بخياله ويسافر بعيدا متابعا حركة المصاعد، شرقا وغربا. اشتم رائحة العطور الباريسية، اكتشف بعضها من خلال نساء أنيقات وجميلات ركبن معه الأسانسير، منهن الطويلات اليافعات والقصيرات المكتنزات. عيناه تلمح أحيانا بدايات حب من أول نظرة ونهايات قصص أخرى، صار يميز بين الكريم والضنين، فالناس على اختلافهم يأتون إليه دون أن يبارح مكانه، وهو جالس على كرسيه يقاوم خدر النوم.

 

التعليقات