متحمسون للثورة متعثرون فى الديمقراطية - فهمي هويدي - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 2:11 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

متحمسون للثورة متعثرون فى الديمقراطية

نشر فى : الثلاثاء 27 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 27 مارس 2012 - 9:13 ص

إحدى خلاصات تجربة السنة الأولى من عمر الثورة المصرية أن المجتمع كان شديد الحماس للثورة، فى حين أن نخبته ليست جاهزة للديمقراطية.

 

(1)

 

من يتابع بث الإعلام المصرى المقروء منه والمرئى يخيل إليه أن ثمة سرادقا كبيرا نصبه البعض للعزاء فى «وفاة» الثورة، فى حين اصطف فى جانب منه نفر من المنشدين يرثون «الفقيد» ويتحسرون على اختطافه وهو فى مهده. وفى جانب آخر  وقف آخرون يصرخون ويولولون معبرين عن الحسرة إزاء الحدث الجلل. وتنافس فريق ثالث فى هجاء من كان السبب فيما حدث وفى حث «الثوار» على القصاص للثورة التى اجهضت والحلم الذى ضاع. ووسط أجواء لطم الخدود وشق الجيوب تتردد فى الفضاء صيحات القائلين بأن الثورة سرقت من أصحابها، وأن الشعب المصرى صار ضحية للخديعة والاستغفال، وقائلين بأنه لم تكن هناك ثورة من الأساس، وأن ما رأيناه كان فجرا كاذبا تبين أنه استنساخ للذى فات. لا جديد فيه سوى أن «الحزب الوطنى» غير هيأته فارتدى عمامة وأطلق لحيته وصار يتمتم بالبسملة طوال الوقت.

 

صحيح أن السرادق ليس جديدا. لكن الحشد فيه تضاعف هذه الأيام والاستنفار والتحريض بلغ الذروة، حتى تعالت بعض الأصوات محذرة من مؤامرة دبرت بليل وكارثة حلت بالبلد وداعية إلى الطعن فى كل ما بنى فيه حتى الآن، والتأهب لاطلاق ثورة جديدة وتشكيل مؤسسات ثورية بديلة.

 

لدى ملف متخم بالقصاصات والأقاويل يؤيد كل سطر مما ذكرت. وأزعم أن القارئ العادى ليس بحاجة إلى الرجوع إلى أرشيف الصحف وتسجيلات اليوتيوب، وإنما يكفيه فى ذلك أن يطالع صحف الصباح لكى يجد فيها كل مقومات الشحن والتعبئة والتحريض والتبكيت.

 

اسوأ ما فى هذه الحملة متعددة الأبعاد أربعة أمور هى:

 

● أنها تحاكم الثورة على أهدافها النهائية التى لم تتحقق بعد، وليس أهدافها المرحلية التى تسعى لإنجازها على الأرض.

 

● إنها فى أساسها تعبر عن صراعات وحسابات شريحة من المثقفين والسياسيين. الذين يحاولون جاهدين تنزيلها إلى الشارع وإشغال الرأى العام بها، فى حين أن المواطن العادى مهجوس بأمور أخرى ولا علاقة له بتلك المعارك.

 

● إنها تحدث إرباكا فى أولويات العمل الوطنى، من حيث إنها تصرف الانتباه عن التحديات الكلية. المتعلقة بالنهوض الاقتصادى والعدل الاجتماعى والحريات العامة والاستقلال الوطنى، وتفرض على الناس معارك أخرى هامشية وفرعية.

 

● إنها تروع المصريين المقيمين فى الخارج وتعطى انطباعا مشوَّها ومغلوطا لغيرهم من المتابعين والمراقبين وهو ما يلمسه كل من يحتك بهذه الدوائر، وما كان لى منه نصيب فى الآونة الأخيرة. إذ وجدت درجة عالية من الإحباط والتشاؤم لدى البعض ومن الشماتة وسوء الظن لدى آخرين.

 

(2)

 

خذ مثلا المعركة التى احتدمت فى مصر حول وضع الدستور الجديد، وهى التى اشتدت أوارها بعدما تم الاتفاق فى اجتماع مجلسى الشعب والشورى على انتخاب نصف أعضاء اللجنة التأسيسية من المجلسين والنصف الآخر من خارجهما. ذلك أنك لا تكاد تفتح جريدة أو تتابع حوارا تليفزيونيا إلا وتجد نفسك فى قلب الجدل حول الموضوع. وستلاحظ على الفور أن محور المناقشة هو عدم الثقة فى ممثلى التيار الإسلامى، والخوف من أن يفرضوا على الدستور آراءهم وبصماتهم. إليك نماذج من تلك الآراء، سأحتفظ بأسماء كاتبيها منعا للإحراج.

 

● يريدون أن يفصلوه على مقاسهم (الدستور)، ويقيموا إمارة دينية تعود بنا إلى العصور التى كنا فيها طوائف متفرقة مسلمين وذميين. ولم نكن مواطنين ولم نكن مصريين. وكنا رقيق أرض نسمع ونطيع. ولم نكن أمة حرة تصدر عنها وحدها كل السلطات... إن إقحام الدين فى الدستور على أى نحو وبأية صيغة إفساد للدستور وتزييف له فاستيقظوا أيها المصريون (الأهرام 24/3/2012).

 

● انسحبوا من لجنة صياغة دستور لن يمثل فيه كل المصريين بالتساوى، وبقدر وجودهم الحقيقى فى المجتمع. انسحبوا (الكلام موجه إلى الأقلية البرلمانية) قبل أن يشعر المصريون بأن هذا الدستور لا يعبر عنهم جميعا وانكم شاركتم فى خداعهم.. انسحبوا قبل فوات الأوان، وليكن فعلكم إيجابيا بتشكيل هيئة تأسيسية أخرى يمثل فيها كل المصريين، لتكتبوا معا دستور الثورة. (المصرى اليوم 22/3).

 

● ما يحدث الآن فى لجنة تأسيسية الدستور المصرى فى البرلمان، هو مهزلة بكل المقاييس والسكوت عنه جريمة، والمشاركة فيه عار على الديمقراطية.. (ذلك أن) كل الفقهاء الدستوريين فى مصر يتفقون على أن البرلمان ليس جهة وضع أو صياغة بنود الدستور.. إن الضغوط الهائلة التى قامت بها جماعة الإخوان ممثلة فى حزب الحرية والعدالة داخل البرلمان للوصول إلى صيغة الهيئة التأسيسية هى «اختراع» غير مسبوق. وهى نموذج لسياسة غطرسة القوة التى تمارسها الأغلبية بحق الأقلية (الشرق الأوسط 22/3).

 

(3)

 

هذه ليست أكثر من ثلاث قطرات فى بحر الهجاء والتنديد. وإلى جانب التعليقات التى عبرت عن تلك المعانى، فثمة سيل آخر من الأخبار الموازية التى تحدثنا عن مقاطعة بعض أحزاب الأقلية للجنة، وعن التحضير لمسيرات مناهضة لتشكيلها وداعية إلى «إنقاذ مصر» من براثنها، وعن اعتزام القانونيين تقديم طعن يطالب بإبطال قرار تشكيل اللجنة مناصفة بين البرلمان والشخصيات العامة.

 

المفاجأة فى هذه الحملة أن الفرضيات الأساسية التى اعتمدت عليها غير صحيحة. ذلك ان الادعاء بأن الدول «المحترمة» متفقة على أن البرلمان ليس جهة وضع أو صياغة الدستور كلام غير دقيق. إذ تكذبه الخبرة السياسية والتاريخية. علما بأن البرلمان فى الحالة المصرية لن يضع الدستور ولكنه سينتخب اللجنة المكلفة بذلك من بين أعضائه ومن خارجه. آية ذلك أن جامعة «برينستون» الأمريكية أعدت دراسة شملت 200 دستور ظهر فى العالم خلال ثلاثين سنة (بين سنتى 1975، 2005) بينت أن هناك 9 طرق لكتابة الدساتير. وكانت الوسيلة الأكثر استخداما هى أن تعهد الدول إلى البرلمان المنتخب لكى يقوم بهذه المهمة. وهو ما حدث فى 42٪ من الحالات التى تمت دراستها، فى حين أن نسبة الحالات التى تم فيها وضع الدستور بواسطة لجنة تأسيسية معينة أو منتخبة من البرلمان كانت فى حدود 9٪. أما وضع الدستور من خارج البرلمان فلم يتم إلا فى 17٪ من الحالات.

 

الخلاصة أنه خلال الثلاثين سنة التى شملتها الدراسة فإنه فى 51٪ من الحالات كان البرلمان إما واضع الدستور أو صاحب القرار فى اللجنة أو الجمعية التى تولت إعداده وصياغته. الأمر الذى ينفى ذلك التعميم والإطلاق الذى ساقه الرافضون لتشكيل اللجنة فى الحالة المصرية، ويبطل حجة الاستناد إلى الخبرة التاريخية فيما دعوا إليه. ناهيك عن أنه ليس من المنطق أن ينتخب الشعب ممثليه فى البرلمان، ثم يتم إقصاء هؤلاء الممثلين عن وضع الدستور بحجة أنهم لا يمثلون الشعب بصورة كافية. علما بأن انتخاب نسبة من خارج البرلمان يمكن أن يسد هذه الثغرة.

 

إنك إذا دققت النظر فى المشهد، ستلاحظ أن أحزاب الأقلية هى التى ما برحت تثير الضجيج وتؤلب الرأى العام طول الوقت. منذ طرحت التعديلات الدستورية للاستفتاء وحتى اللحظة الراهنة. حيث لم تكن مستعدة للقبول بنتائج الممارسة الديمقراطية فى أى مرحلة.

 

(4)

 

ليست المشكلة مقصورة على أحزاب الأقلية، لأن الأغلبية كان لها نصيبها منها، من حيث إنها لم تستوعب جيدا أساليب الممارسة الديمقراطية، على الأقل فيما خص طبيعة علاقتها مع الأقلية. إن شئت فقل إن الجميع دخلوا فى تجربة ديمقراطية لم يألفوها منذ نصف قرن على الأقل. الأمر الذى لم يسمح باستقرار التقاليد الحاكمة لعلاقات القوى السياسية. وإذا أضفت إلى ذلك أن نحو 80٪ من أعضاء البرلمان حديثو عهد بالتجربة، ومنهم من هو حديث العهد بالسياسة برمتها. فلك أن تتصور حالة الارتباك والاضطراب التى تسود العلاقة فى هذه الحالة. وهو ما اعترف به البعض ممن نظمت لهم محاضرات ودروس خصوصية لاستيعاب الموقف الذى وضعوا فيه.

 

لا أتحدث عن الإخلاص والغيرة وغير ذلك من القيم التى لا أشك فى توافرها لدى الجميع، لكنى أتحدث عن تواضع الخبرة السياسية وارتباك الرؤية الاستراتيجية. وفى مقام آخر حذرت من ثلاث فتن تتعرض لها الأغلبية فى البرلمان، فتنة الأضواء وفتنة الأغلبية وفتنة السلطة. ولا أريد أن أتسرع فى الحكم، لكننى أزعم أن أداء الأغلبية حتى الآن لم يقنعنى بأن رموزها محصنة ضد الافتتان بما ذكرت. إذ فى ممارسات عدة تمنيت على الأغلبية أن يكون انحيازها إلى الجماعة الوطنية أقوى من انحيازها إلى «جماعتها».. بالتالى فإننى لم أفهم ذلك الحرص على إثبات الحضور فى مختلف المواقع. ولا أخفى دهشة ــ مثلا ــ من التلويح المتكرر بسحب الثقة من الحكومة والمطالبة بتشكيل حكومة ائتلافية يقودها الإخوان. الأمر الذى من شأنه أن يُحدث احتقانا فى الأجواء السياسية وتراجعا فى البورصة وإقلاقا للداخل والخارج ــ يضاعف من الدهشة أن تغيب عن الأذهان تلك الأصداء ويشهد الاستعداد لخوض المغامرة فى حين أن الحديث ينصب على حكومة عمرها ثلاثة أشهر فقط، تنتهى بعدها الفترة الانتقالية وينتخب خلالها رئيس جديد فى ظل دستور جديد.

 

أدرى أن الأغلبية لم ترتكب خطأ قانونيا أو دستوريا، وأنها فى ممارساتها تصرفت فى حدود صلاحياتها. لكننى أتحدث عن الملاءمات السياسية ومناخ التشاور والتوافق الذى نريد له أن يسود. من هذه الزاوية فإننى استغرب ذلك التكالب من جانب الجميع على توزيع الحظوظ والحصص فى لجنة الدستور، حتى قلت إنه كان يكفى الأغلبية أن تتمسك بأمرين فى الدستور، هما هوية البلد الإسلامية وضمانات الحريات العامة، ثم تترك الأمر بعد ذلك للآخرين يجتهدون فيه ما وسعهم الجهد.

 

إن التحديات التى تواجه مصر أكبر بكثير من تلك المعارك الجانبية التى تثار بين الحين والآخر، فتفرق الصف وتستهلك الجهد. لذلك تمنيت أن ينشغل الجميع برؤية تحقق للوطن الفوز وعبور الفترة الانتقالية بنجاح. وذلك أهم بكثير من فوز هذا الحزب أو ذاك بأى مغنم مهما بلغ شأنه.

فهمي هويدي فهمى هويدى كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.