فى ذكرى تاريخية - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 2:25 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى ذكرى تاريخية

نشر فى : الجمعة 27 يناير 2012 - 9:15 ص | آخر تحديث : الجمعة 27 يناير 2012 - 9:15 ص

ظهيرة الأربعاء 25 يناير، أمس الأول، وجدت نفسى أسيرا فى مظاهرة قادمة من شارع جامعة الدول العربية عبر شارع البطل أحمد عبدالعزيز، فشارع التحرير حتى كوبرى قصر النيل، وكنت فى حالة وجدانية مشرقة بشكل استثنائى، لا لأننى كنت أتظاهر لأول مرة بعد سنين طويلة كثيرة، ولكن لأننى اكتشفت أننى أمضى فى ركب رسالة تاريخية فى يوم تاريخى، تقول الهتافات على سطحها إنها موجهة للمجلس العسكرى، وأنها تستعيد زمام التشبث بأهداف الثورة التى لم تتحقق، وأنها تطلب القصاص للشهداء والمصابين ومن فقدوا نور عيونهم فى سبيل مصر الجديدة الحرة، لكن فى عمق الرسالة قرأت شيئا أشمل وأبعد من مجرد مُرسَل إليه وحيد أو أهداف مُحدَّدة تُعلن عنها الهتافات والبيانات واللافتات التى كان يحملها المتظاهرون.

 

كان شارع البطل أحمد عبدالعزيز حتى ميدان الدقى فشارع التحرير وحتى كوبرى الجلاء مملوءة كلها بحشود من المتظاهرين والمتظاهرات قدَّرته بعض الصحف بربع مليون فتى وفتاة ومن أعمار مختلفة، لكننى أتصور أنه يزيد على ذلك كثيرا، وبما يكفى لملء ميدان التحرير بمليونية كاملة، وهو ما حدث عندما وصلت هذه المظاهرة إلى التحرير فوجدته «محجوزا» بمن حشدوا لأنفسهم منذ الصباح الباكر قادمين من الأقاليم بسرب أتوبيسات امتد بطول رصيف الطريق المحاذى للأوبرا، فاضطرت مظاهرة شارع البطل أن تمد فيضها من الجسر إلى الجسر، والمدهش بل المذهل أكثر أن هذه المظاهرة كانت واحدة من عديدات مثلها جاءت من جامعة عين شمس ومصر الجديدة والمعادى وحتى العباسية التى تبخرت من ركن ميدانها حفنة أحفاد مبارك وصحبة توفيق عكاشة الذين أساءوا للمجلس العسكرى أكثر مما أفادوا.

 

إذن نحن نتكلم عن عدة ملايين معظمهم من الشباب، ومن القاهرة وحدها، واجتمعوا على أهداف مشتركة تكاد تكون بديهية فى أعقاب كل ما جرى، لكن كل ذلك كان سطح الظاهرة المذهلة، التى كنت أتأملها سائرا بصمت فى قلبها، وكان القلب الفتى الجميل ينبض بما يشبه هدهدة قلب الأم للوليد فى حضنها، فقد كنت أردد من موقع الخوف على مصر وانزلاقها باتجاه دكتاتورية تقمع صحوتها، وجنوحات ماضوية تقتل مدنيتها، وتمزق وحدة بنيتها، وتهدد ترابطها الجغرافى السياسى، وتهز أعمدة الوسطية والاعتدال الدينى والدنيوى الحاملة لبنائها.. كنت أقول: «لا.. مصر كبيرة.. أكبر من أن يستفرد بها فصيل واحد»، لكننى كنت فى شك من ذلك، مأخوذا بصدمة الأصوات العالية والاجتراء الخشن للبعض الذى هيأ لنفسه وللأمة أنه «الأغلبية الغالبة»، بينما الحقيقة التى أعلنت عن نفسها بهذه «المليونيات» المدنية فى ذكرى ثورة يناير، قطعت بأن لا غالب إلا الله الواحد الذى نعبده جميعا، والذى لم يمنح صكوك غفرانه لفصيل دون فصيل من المصريين، «لا غلبة لأحد على أحد»، هذه هى الرسالة الأعمق التى أعتقد أنها لم تكن موجهة للمجلس العسكرى وحده، بل لكل فرقاء الساحة السياسية. بل أستطيع أن أقول بقلب مطمئن إن مدنية مصر، ووسطية واعتدال روحها، لا تزال صاحبة الأغلبية.

 

ليحسبها من يشاء بحساب ما قالت به الصناديق، وسأوافقه عليه برغم كل ما شاب العملية الانتخابية من تظالم، وخروقات، فسنجد بنظرة طائر عدول إلى طوفان مليونيات هذا اليوم التاريخى التى أتكلم عنها، أن لاغالبية على هذه الأغلبية من مليونيات الشباب الحر، من كل الأطياف التى شملت سلفيين مستنيرين وإخوانا رحيبى الأفق، وأن مصر المدنية الوسطية المعتدلة دينا ودنيا، لا تزال بخير، وهى قوة لا ينبغى لأحد أن يستهين بها مادامت قادرة على الخروج بكل هذه الحشود، وبكل هذا الرقى فى سلوكها الذى شهد به عموم الناس حتى بعض من أوصلتهم التلكؤات والافتراءات والتشويهات ضد شباب الثورة إلى كراهية حركتهم، حتى هؤلاء شهدوا بأن ذلك الشباب كان بديعا فى خروجه، نبيلا فى مسيره، متحضرا فى مراعاة حرمة الطريق، وحَرم الذوق العام.

 

إنها رسالة ينبغى أن يقرأها كل ذى قلب سليم، وكل صاحب ضمير يدرك أن نصرة دين الله مناطها فى رحاب السياسة الشريفة هى نصرة العدل والحرية والكرامة فى الدنيا، على قواعد من تنمية لا تحتمل أى تنطع أو غلو معرقل أو معيق، فالناس لم تنتخب الناس لأنهم سيهدونهم إلى دين جديد، بل لأنهم يتوسمون فيهم أمانة نقلهم إلى دنيا جديدة، قوامها الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، وهذا هو الامتحان الحقيقى على أرض الحاضر وفى أفق المستقبل.

 

ويتبقى فى صدرى كلمتان لشباب وشابات مصر الجديدة الحرة الشجاعة المثابرة: مادمتم قادرين على حشد كل هذا الجمال والتحضر والنبل المليونى، فلماذا تنحشرون فى ضيق وهزال اعتصامات تفتقد شروط فعاليتها وتتيح النيل منكم ومن نبل غاياتكم؟

 

عندكم الإجابة.  

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .