عند الفنار القديم - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 6:24 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عند الفنار القديم

نشر فى : السبت 27 مايو 2023 - 8:35 م | آخر تحديث : السبت 27 مايو 2023 - 8:35 م

العين عليها حارس، كانت تردد المربية العجوز فى إشارة لوسائل الدفاع الطبيعية للعين، وأرد أنا فورا: والفنار أيضا له حارس، فى إشارة للشخص المسئول عن حماية المنارة التى تقع إلى جوار البحر بمدينة بورسعيد، فى مكان استراتيجى على ناصية العالم. البرج العالى والأضواء المنبعثة منه وشكل المبنى المثمن وبعض الأفلام، كلها عوامل كفيلة بإشعال خيال الطفلة التى كانت، ففى السينما والروايات، الفنار القديم دائما يخرج منه رجل طاعن فى السن يحمل مصباحا ويشهد العديد من الجرائم والقصص الغرائبية مثلما يراقب حركة السفن ذهابا وإيابا، لا تفوته شاردة ولا واردة.
على هذا النحو، صار الفنار منطقة يحيط بها الغموض، وحارسه إنسانا وحيدا يعيش متأملا، يهب عليه فجأة ضوء النهار قويا فيصعد الدرج لاهثا، محاولا مقاومة الجاذبية الأرضية. فكرة أنه يتجول بحرية داخل هذا المبنى الغريب ويقضى به ليله جعلته فى ظنى يميل إلى فلسفة الأمور، يعشق البحر، ويتابع تلاطم أمواجه، ويصمد أمام الزوابع، ويعرف كيف يتصرف بحكمة خلال العواصف كى لا تضطرب الملاحة فى القناة. ربما هو أيضا من يكتب الرسائل ويضعها فى زجاجات ويلقيها فى البحر.
• • •
تحطمت أغلب هذه التصورات الوهمية بمرور الزمن، لكن بقى منها شىء يرفض أن يغادر إلى أن زرت أخيرا المدينة الباسلة وتمشيت بشارع «فلسطين» حيث توجد الواجهة الرئيسية للفنار، ناحية الشرق، والمطلة على ميناء بورسعيد. قرأت بالطبع عن تاريخ الفنار قبل الزيارة بوصفه أول منارة بنيت بالخرسانة فى مصر فى نهاية القرن التاسع عشر، حينها كان الأسمنت المسلح معروفا لكن ليس منتشرا فى الكثير من البلدان، وعندما فكرت الحكومة المصرية والشركة العالمية لقناة السويس البحرية فى إنشاء أربع منارات لإرشاد السفن فى كل من رشيد والبرلس ودمياط ــ عزبة البرج وبورسعيد، جاء فنار هذه الأخيرة مختلفا، فقد صممه فرانسوا كوانييه على غرار منارة «الحيتان» بجزيرة «ريه»، غرب فرنسا، واستخدم الخرسانة فى تشييده بخلاف الشركة الفرنسية الأخرى التى أشرفت على الفنارات الثلاث المعتمدة فى بنائها على الحديد والحجر كما كان شائعا وقتها. هو تحفة فريدة من نوعها إذا ببرجه الذى يصل ارتفاعه إلى 56 مترا، وجدرانه المدهونة بالأبيض والأصفر الغامق، والكرة الحديدية الضخمة التى كانت تسقط من أعلى محدثة دويا هائلا يسمعه أهالى المدينة ثلاث مرات فى اليوم، عند السادسة صباحا والثانية عشرة ظهرا والسادسة مساء.
الفنار لم يعد يعمل منذ العام 1997، حل محله آخر كهربائى حديث، ولم يعد للحارس الأسطورى وجود، لكن ظلت هناك الحجرات التى كانت تستخدم للسكن والإدارة والممرات والدهاليز التى شهدت قطعا العديد من الحكايات، سواء حين تم تزويده بأجهزة كهربائية فى منتصف الخمسينيات أو عند توقف الملاحة فى القناة بعد هزيمة 67 واستئنافها بعد حرب أكتوبر وتحرك زورق السادات معلنا عن ذلك الحدث الجلل عام 1975، كما شهد مبنى هيئة الإرشاد الموجود فى الجوار خطاب جمال عبدالناصر بمناسبة عيد النصر، وقبل كل ذلك كان شاهدا على التنافس بين بريطانيا وفرنسا من أجل السيطرة على حركة الملاحة وعلى تولى إدارة المنارات على الطرق البحرية التى تؤدى إلى مستعمراتهما.
• • •
علامات مدينية مثل المغناطيس تجذب الحشود البشرية والجماعات وتغدو مواضع للتفاعل والتعبير الإنسانيين، لذا يلخص الفنار المهجور بالأشجار الكثيفة المحيطة به والشارع كله، بما فى ذلك اسمه «فلسطين، السلطان حسين كامل سابقا»، التغييرات التى طرأت علينا وعلى المنطقة برمزية عالية. الشارع مهمل ومكدس بالقاذورات، خاصة تحت اللافتة التى تحمل اسم «فلسطين»، والممشى العلوى الممتد بطوال الشاطئ أصابه الكثير من الهدم رغم أنه أقيم سنة 2000، فوفقا للتصريحات الرسمية أصابت سهام التطوير هذه المنطقة أيضا وتصاعدت الأزمة بين الدولة والمنتفعين بالمحال التجارية منذ نحو أربع سنوات. وبالتالى المنازل ذات الطابع الخاص تُركت لمصيرها المؤسف وكأن لا صاحب لها، يُصورها الناس حتى يحتفظوا فى ذاكرتهم بشكل «التراسينة» البورسعيدية التقليدية والشرفات الخشبية المميزة التى تسقط واحدة تلو الأخرى. «بيت إيطاليا» الذى يقع على بعد خطوات، والتابع لقنصلية بلاده منذ إنشائه فى منتصف الثلاثينيات، مغلق وبه شروخ لا يتم ترميمها، فى حين من السهل تحويله إلى مركز ثقافى فهو يحتوى على قاعة سينما ومطعم وصالة رقص إلى ما غير ذلك، بما أنه كان مكانا يجتمع فيه أبناء الجالية. ومتجر «سيمون أرزت» الكبير، الذى يعتبر أول مولات الشرق ويرجع تاريخه لقبل مائة عام، جار العمل فيه على قدم وساق ولا ندرى ما ستكون هيئته. أما متحف بورسعيد الذى كان يضم تسعة آلاف قطعة أثرية من عصور مختلفة فقد تم هدمه بعد أن كانت وزارة الثقافة قد رصدت لتطويره مبلغ 75 مليون جنيه عام 2009، وبعد الانتهاء من إعداد المشروع ــ كما ورد فى الصحف ــ اكتشفت الشركة المنفذة عدم جدوى الترميم وصدر قرار ببناء مشروع سكنى سياحى فاخر على مساحة الأرض، وهناك دعوى منظورة أمام المحاكم لوقف القرار وإعادة النظر فيه.
لم يعد الشارع يمتلئ بالبمبوطية وتجار البحر كما كان فى السابق. على جدار ممشى ديليسبس كَتَبَ أحدهم رسالة لحبيبته بالبنط الأسود العريض «وحشتينى»... ووحشتنا نحن أيضا المدينة الساحلية النشطة التى عرفناها صغارا والتى تتم معاقبتها على ذنب لم تقترفه. تهب الرياح المتربة منذرة بالمزيد، والفنار واقف فى مكانه وقد انطفأت أنواره منذ فترة.. ربما مات حارسه الأخير.

التعليقات