فى انتظار الرئيس - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 3:00 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى انتظار الرئيس

نشر فى : الخميس 28 فبراير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 28 فبراير 2013 - 8:00 ص

أنا مواطن صالح أغسل يدى قبل الأكل وبعده، وأشاهد بانتظام ممل نشرة التاسعة مساء الإخبارية فى القناة الأولى للتليفزيون الرسمى، ولأن علاقاتى بمن حولى قائمة على الاحترام المتبادل فإننى لا أتعرض للسخرية بسبب هذا السلوك، وإنما يبدى معارفى دهشتهم الفائقة وانتقادهم المرير لما أفعل باعتباره تضييعا للوقت فيما لا طائل وراءه، خاصة أن البدائل التى توفرها الفضائيات المصرية والعربية والأجنبية لا تعد ولا تحصى، وكان تعليقى دائما على هذه الآراء أننى أتعامل مع نشرة التاسعة كباحث، فقد اكتشفت منذ عقود ــ وكانت البدائل أيامها شديدة المحدودية ــ أن هذه النشرة التعيسة تساعد على معرفة اتجاه الرياح الرسمية فى القضايا الكبرى على نحو قد تصعب معرفته من مصادر مباشرة، كما أنها نافذة حقيقية على السياسة الإعلامية ومدى ترديها. وأعتقد أن ما حدث مساء الأحد الماضى وامتد حتى الساعات الأولى من صباح الاثنين يعزز وجهة نظرى بغض النظر عن آثاره غير الحميدة على ضغط الدم.

 

•••

 

تأهبت كعادتى لمشاهدة النشرة من أولها، وكان الخبر الأول عن إذاعة حوار أجراه الرئيس مع الإعلامى اللامع عمرو الليثى، وهو أمر كنت أعرفه سلفا وإن كنت قد تأخرت فى معرفة السبب فى عدم تحديد زمن معين لإذاعته مع أن الحديث مسجل، ومع ذلك سرعان ما بدأ يظهر مستطيل أسفل الشاشة تحت تصنيف «عاجل» يبشرنا بأن التليفزيون بسبيله إلى إذاعة الحوار بعد قليل، وأصابنى هذا بشعور خبيث بالراحة لأن إذاعة الحوار  ــ وكنت سأشاهده بطبيعة الحال باعتبارى مواطنا صالحا وباحثا دءوبا ــ ستعفينى من متابعة باقى النشرة التعيسة، غير أن القليل لم يعد كذلك، وانتهت النشرة بخيبة أملى قبل أن تبدأ إذاعة الحوار فيما استمر ذاك المستطيل الذى أصبح مثيرا للأعصاب أسفل الشاشة يبشرنا بأن الحوار قادم بعد قليل. وبعد مرور ساعة أدركت أن ثمة مشكلة حقيقية فى إذاعة الحوار، ولأننى كنت مرتبطا بعمل يتعين على إنجازه قبل منتصف ليل الأحد فقد شرعت فى العمل وأبقيت التليفزيون مفتوحا وإن خفضت صوته حتى لا يفقدنى تركيزى. استغرقت فى العمل حتى انتهيت قبل منتصف الليل، وتفرغت مجددا لمتابعة دؤوبة لما يجرى فإذا بالمستطيل الملعون ما زال قابعا أسفل الصفحة، كما أننى شاهدت عجبا عن موسم جنى محصول البلح فى أسوان والاحتفالات المصاحبة له من رقص وغناء، ورقصات باليه، وأفواج سياحية تشاهد بانبهار عظمة الآثار المصرية، وسيارات تجوب طرق القاهرة الحديثة على غير هدى، فضلا على إذاعة أغنيات وطنية شهيرة لأم كلثوم وغيرها عدد من المرات لا أذكر أننى استمعت إليها بهذه الوتيرة قبلا، وإن كان لا يوجد ما يمنع أن تتكرر لاحقا ما دام الأمر كذلك. لاحظت أن المستطيل قد اختفى بعد منتصف الليل، ولا شك أن المسئولين قد أدركوا بعد فوات الأوان مدى سخافته، لكننى لاحظت أيضا أن الاستخفاف بالمواطن قد بلغ مبلغه، فأن يجلس هذا المواطن لساعات كى يتابع حوارا لرئيس الجمهورية يمثل فى حد ذاته إهانة، وألا يخرج مذيع يعتذر عن هذا التأخير الفادح إهانة أيضا، وليعلم رئيس الجمهورية ورجاله فى قطاع الإعلام أن من جلس ينتظره طيلة هذا الوقت هو فى الأغلب مواطن غير معادٍ للحكم، وإنما يريد أن يعرف، والأهم من ذلك أن يعلموا أن قلة قليلة من المواطنين هى التى يمكن أن تصمد حتى هذا الوقت المتأخر كى تشاهد حوارا لرئيس الجمهورية مهما بلغت أهميته. فى تمام الساعة الثانية إلا الربع صباحا جاء الفرج، وبدأت إذاعة الحوار بعد أقل قليلا من خمس ساعات على الإعلان عن بدء إذاعته بعد قليل. أغلقت التليفزيون على الفور لأن الفضول كاد يقتلنى لمعرفة الكيفية التى ستنتهى بها هذه المهزلة، وقد نلت ما أريد، ولم أكن على استعداد للبقاء متيقظا حتى الرابعة صباحا مهما كانت الأسباب «العلمية».

 

•••

 

فتحت هذه المهزلة الباب للحديث عن أن الحوار لابد وأنه كان موضع رقابة من «مكتب الإرشاد»، فالحوار مسجل بكل تأكيد وربما قبل إذاعته بيومين مثلا، وسوف يلاحظ المشاهد أن الرئيس قد ذكر فيه معلومات قديمة مثل الموعد الأصلى للانتخابات، وأن وسائط إعلامية عديدة قد أشارت فى اليوم السابق لإذاعة الحوار إلى بعض الاتجاهات الرئيسية له، فيما أفاضت صحيفة «الأهرام» فى هذا بحيث أن طبعتها الأولى المتضمنة هذه الاتجاهات الرئيسية قد سبقت بكثير إذاعة الحوار. ولا بأس من مراجعة «مكتب الإرشاد» للحوار، فقد أصبح هذا من طبائع الأمور لكن السؤال يبقى: لماذا هذا البطء فى إتمام المراجعة خاصة وقد كان لدى المكتب الوقت الكافى، كما أنه من الصعب تصور أن يكون «مكتب الإرشاد» قد تعمد إحراج الرئيس فى هذه الظروف الصعبة التى يمر بها. إن الخطب السياسية الكبرى يمكن أن ترتبك مواعيدها إذا كانت مرتبطة بأحداث تتطور فى كل لحظة كحرب مع العدو أو ثورة شعبية، وما إلى هذا، لكنه فى الظروف الطبيعية لا يوجد ما يبرر هذا الارتباك المخل.

 

•••

 

لكن المسألة لم تكن فقط كاشفة بالنسبة لأداء «مؤسسة الرئاسة» وارتباكها إن جاز الحديث عن مؤسسة أصلا، لكنها كانت فى الوقت نفسه نافذة عريضة على الإعلام الرسمى ومدى تواضعه، وهو ما ظهر فى الطريقة التى غطى بها الساعات الخمس فى تلك الليلة حالكة الظلمة، وتلك قضية أخرى تستحق الكتابة عنها ليس بغرض التشهير وإنما النصح والتوجيه. وثمة عدد من الملاحظات يمكن أن يسجل فى هذا السياق، أولها أن القيادات الإعلامية الرسمية قد ضيعت مدة زمنية هائلة لأقل قليلا من خمس ساعات كانت تستطيع أن تقدم فيها مادة إعلامية متكاملة تكون ذات رسالة تخدم أهدافها. أما هدر الوقت على النحو الذى سبقت الإشارة إليه فهو مؤشر على غياب الرؤية وفقدان المبادرة، وقد يقال ومن أدراهم أن إذاعة الحوار كانت ستتأخر خمس ساعات، والرد ببساطة أنك سوف تبث عملا مفيدا، وبمجرد بدء الإذاعة تعود إلى الهدف الأصلى. والملاحظة الثانية أن الأغانى والأناشيد التى قدمت فى هذه المدة الطويلة تعود فى معظمها إلى زمن التحرر الوطنى، ورغم روعتها فإنها تتحدث عن مبادئ وأهداف وسياسات وإنجازات لم تعد موجودة، ومن شأن ذلك إما أن يثير السخرية من الوضع القائم أو يؤدى إلى إحباط عظيم، أما الملاحظة الثالثة فتتعلق بـ«السمك ــ لبن ــ تمر هندى» الذى قدم فى هذه الساعات الخمس، وكان مدلوله مهينا لأية قيادة إعلامية رسمية، وقد ذكرنى هذا بيوم وفاة بورقيبة فى تونس، فقد مثلت الوفاة معضلة لنظام بن على، إذ أن بورقيبة هو الزعيم التاريخى المعترف به فى تونس، وبن على انقلب عليه، ويبدو أنه استكثر عليه أن يذاع القرآن فى التليفزيون الرسمى فكانت النتيجة أن هذا التليفزيون ظل لساعات طويلة يذيع برامج تنتمى لعالم الحيوان، ورأينا يومها عجبا من سلالات الحيوانات والزواحف، لكن الدلالة الإعلامية كانت مخزية. المسألة إذن فى مجملها ليست بالأساس تأجيلا مخلا لإذاعة حوار رئيس الجمهورية، لكنها كشفت عن تردٍ هائل فى مؤسستى الرئاسة والإعلام، ولعل هذا يفسر خطأ القرارات الرئاسية وتخبطها والتراجع عنها، وكذلك عجز الإعلام المصرى عن استعادة دوره القيادى العربى فى زمن الثورة، فهل من أمل فى إصلاح؟ 

 

 

 

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ومدير معهد البحوث والدراسات العربية

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية