أتوبيس (النقل العام) وهيبة الدولة (الجريحة) - سامح فوزي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:16 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أتوبيس (النقل العام) وهيبة الدولة (الجريحة)

نشر فى : الجمعة 28 أغسطس 2009 - 5:43 م | آخر تحديث : الجمعة 28 أغسطس 2009 - 5:43 م

 لم تحتمل الحكومة يومين من إضراب نفذه سائقو وعمال النقل العام، فأسرعت إلى تلبية الكثير من مطالبهم، وبدأت فى دراسة المتبقى منها، فى حين أنها لا تزال تحتمل ما يقرب من شهرين من اعتصام خبراء العدل أمام مبنى الوزارة التابعين لها. بالطبع هناك اختلاف كمى وكيفى فى المطالب المقدمة فى الحالتين، لكن سيظل هناك قاسم مشترك بينهما وهو الاحتجاج من أجل لقمة «أفضل» للعيش.

(1)

أتوبيس النقل العام هو أحد العلامات المميزة لأى دولة. اختلافه يجسد اختلاف تاريخ، وثقافة، ومؤشرات التحضر فى كل دولة. فى لندن ظل الأتوبيس الأحمر ذى الطابقين علامة مميزة، ما أن تراه فى التليفزيون أو فى صورة فوتوغرافية حتى تدرك على الفور المدينة التى يسير فيها. وعندما استغنت لندن عن الشكل القديم للأتوبيس، لم يختلف الجديد كثيرا عنه، وظل يحمل بصمة القديم مع شىء من التطور. فى دول أخرى مثل لبنان تتوارى الدولة لصالح القطاع الخاص، فترى فيها السيارات المرسيدس القديمة تستخدم بوصفها «سرفيس»، وإلى جانبها حافلات خاصة تنقل الأفراد من مكان لآخر. فى أعتى الدول الرأسمالية الأتوبيس العام هو أحد ركائز النقل الداخلى، مواعيده مقدسة، مدونة على لوحة مثبتة على حامل بجوار كل محطة، تنتظم حركته انتظام عقارب الساعة، يربط المدن فى حالة تناغم، مما يجعل الشخص «متوسط الحال» ليس فى حاجة إلى اقتناء سيارة. فهو فى النهاية رمز انضباط الدولة، وهيبتها، وحضورها «الناعم» فى المجتمع. روى لى صديق فى لندن أنه يوما ما ابتلعت ماكينة التذاكر جنيهين ثمن التذكرة، فاشتكى هاتفيا لشركة النقل العام، وفى غضون أيام أرسلت له الجنيهين مع اعتذار رقيق.

فى المجتمع المصرى تبدو الصورة معكوسة. أتوبيس النقل العام بائس، يفتقر إلى النظافة، ولا يعرف دقة المواعيد، تطل الأجساد منه، وتشكو النساء من التحرش به، تتصدر جدرانه الداخلية إعلانات سخيفة تجمع بين الدجل والشعوذة والطائفية، ويمرح فيه الباعة والمتسولون، وتقع فيه مشاجرات دورية. باختصار هو صورة صادقة للمجتمع المصرى، الذى تترهل فيه مؤسسات الدولة، وتسوده فوضى اجتماعية، وغياب للمعايير، وفائض عنف.

(2)

فى حوار جمعنى مع أحد قيادات الحزب الوطنى البارزين، طرحت عليه سؤالا حول غياب الخصخصة فى قطاع السكة الحديد خاصة فى ضوء تردى أحوال القطارات بشكل غير مسبوق، خاصة على خط الصعيد. فأجاب قائلا: وهل خصخصة النقل العام جاءت على النحو المرجو؟ وأضاف: لقد اختفى أتوبيس النقل العام، وحلت محله حافلات النقل الجماعى الخاصة.. أين الدولة؟. ربما هذا السؤال هو مفتاح قراءة إضراب عمال وسائقى النقل العام الذين شعروا أن الدولة لم تعد تهتم بهم أو تعرفهم. أحوال أقرانهم فى النقل الجماعى الخاص أفضل، فى حين أنهم يعيشون فى أوضاع معيشية، ومهنية، وسلوكية سيئة. إذا طالعت مطالبهم سوف تستغرب عن أسباب عدم تلبية الحكومة لها طيلة الفترة الماضية.

فقد طالبوا برفع المخالفات المرورية عنهم خاصة المترتبة على عيوب فنية فى أتوبيسات النقل العام، ورفع بدل الوجبة التى يحصلون عليهم، وزيادة نسبة السائق فى التذكرة من 5% إلى 8%، فضلا عن توفير قطع الغيار اللازمة للأتوبيسات.

بدأ الإضراب فى عشرة جراجات فى اليوم الأول ثم امتد ليشمل اثنين وعشرين فرعا من فروع هيئة النقل العام فى اليوم الثانى قبل أن يعلنوا فض الإضراب بعد الاستجابة إلى مطالبهم، ووعدهم بدراسة مطالب أخرى مثل صرف بدل طبيعة عدوى نتيجة تعرضهم للأمراض من خلال احتكاكهم الدائم بالمواطنين، وصرف بدل ملابس بدلا من الملابس الرديئة التى لا يتسلمها السائقون.

(3)

لم تحتمل الحكومة من رئيسها مرورا بوزيرى المواصلات والإدارة المحلية وانتهاء بمحافظ القاهرة استمرار الإضراب لأكثر من يومين، الذى أصاب قطاع النقل العام بالشلل، وفتح شهية أصحاب الميكروباصات لابتزاز المواطنين البؤساء. الإضراب سلط الضوء على هيئة النقل العام، التى فقد أتوبيسها ذو اللون الأحمر حضوره فى الشارع نتيجة وجود حافلات النقل الجماعى الخاصة ذات اللون الأخضر، وطرح التساؤل بقوة حول مستقبل هذه الهيئة، وهل هناك نية إلى تصفيتها بتركها تتداعى، وتترهل أكثر فأكثر، حتى يُفسح المجال للقطاع الخاص لتولى مهمة النقل الجماعى وحده؟

ما جرى يكشف عن أمر أساسى هو أن الإضراب الفئوى أو المطلبى يحقق نتائجه، من عمال المحلة مرورا بموظفى الضرائب العقارية وانتهاء بعمال وسائقى النقل العام. ولم تعد الدولة قادرة على مواجهته بأساليب بوليسية أو قمعية، بل من خلال «التفاوض» سلاحها الوحيد. ولكن ستظل هناك قضية أساسية، ذكرنا بها الإضراب قصير العمر، هى علاقة أتوبيس النقل العام بهيبة الدولة، رغم أنها لم تشغل بال المضربين أو المسئولين الحكوميين.

هيبة الدولة فى الشارع وليس خارجه. أتوبيس نقل عام مترهل، وعسكرى مرور بائس، وفوضى السير فى الطريق العام تعنى جميعا أن البلد بلا هيبة. وهى النتيجة التى يؤمن بها المواطن العادى، ولا تحتاج إلى دليل أو برهان، فليست هيبة الدولة فى الحراسات الخاصة، أو فى القرية الذكية أو فى الأكمنة المرورية، ولكن قبل كل ذلك فى أتوبيس نقل عام نظيف، لائق، صالح للاستخدام، يجد فيه المواطن ضالته، ولا ينتظره طويلا فيجده قادما تتدلى منه الأجساد كالمصابيح المعتمة، ويخشى فيه الكبار المذلة، وترهبه أجساد النساء.

سامح فوزي  كاتب وناشط مدني
التعليقات