فلما كانت الذكرى الحادية والأربعون - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الإثنين 6 مايو 2024 8:31 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فلما كانت الذكرى الحادية والأربعون

نشر فى : الخميس 29 سبتمبر 2011 - 9:05 ص | آخر تحديث : الخميس 29 سبتمبر 2011 - 9:05 ص

لم أتعود أن أكتب مقالا عندما تحل ذكرى رحيل الزعيم عبدالناصر فى كل عام وإلا بدا الأمر طقوس تمجيد روتينية لقائد لم يكن ينقصه المجد بين شعبه وأمته، لكننى كتبت فى العام الماضى فى ذكرى الرحيل مقالا فى هذه الصفحة بعنوان «أربعون عاما من الحضور» لأننى وجدت أن مرور أربعين عاما على وفاة عبدالناصر يستحق وقفة وتذكيرا بمكانة الرجل ونضاله، كما أننى ختمته بفقرة قصيرة عن مشروعه السياسى وجدت أنها ضرورية فى ظل المناخ الذى بدت فيه مقدمات الثورة وإرهاصاتها، وإن طال بنا الجمود فلم نعد نعرف متى تزول الظلمة الحالكة. فى التذكير بمكانة الرجل ونضاله تخيرت نهجا سرديا حكيت فيه بعض الملابسات التى أحاطت بوفاته فى الساحة الدولية، ولقطات من يوم جنازته التاريخية رؤيتها كشاهد عيان على تاريخ وطن. أما مشروعه السياسى فقد اكتفيت فى نهاية المقال بفقرة قصيرة قلت فيها ما نصه: «بعد أربعين عاما ما زال الرجل حاضرا، ولا تجد ضراوة الهجوم عليه تفسيرا إلا أنه صاحب مشروع ما زال ملائما لتجاوز كثير من المآسى التى يمر بها الوطن، ويخشى خصومه دون شك أن يعود هذا المشروع يوما، لكنهم لا يدركون أنهم بممارساتهم هم أكثر من يمهد الطريق لعودته من جديد». ولم أكن أتصور حينذاك أننى يمكن أن أعاود الكتابة فى الموضوع فى الذكرى الحادية والأربعين.

 

●●●

 

غير أن أمورا جساما استجدت وهى تفجر ثورة يناير التاريخية ونجاحها فى الإطاحة برأس النظام والشخصيات الأساسية فى نخبته الحاكمة. من هنا خطر لى أن معاودة الكتابة فى ذكرى رحيل الرجل قد تكون مطلوبة، ولا أقصد بطبيعة الحال أن ثورة يناير هى نوع من المحاكاة لثورة يوليو، فقد اختلفت الظروف والآليات اختلافا بينا، كما أن «قوى ثورة يوليو» وإن شاركت بدور لافت فى ثورة يناير إلا أنها كانت مجرد فصيل من فصائلها، لكن الأمر المهم أن شعارات الثورتين كانت متقاربة إلى حد بعيد، ولولا شعارات تيار الإسلام السياسى الذى برز دوره فى ثورة يناير لاحقا لأمكن القول بأن هذا التقارب يكاد أن يبلغ حد التطابق.

 

لا أريد القيام بمقارنة مدرسية بين أهداف الثورتين، خاصة وأنه بينما كانت وثيقة «الأهداف الستة» لثورة يوليو كاشفة ومحددة لطبيعتها فإن ثورة يناير بسبب ملابساتها وتعدد الفصائل المشاركة فيها لم تملك مثل هذه الوثيقة، وإن أمكن استخلاص أهداف الثورة من الشعارات المرفوعة أثناء فعالياتها وتوجهات قادتها. ولقد تعرض هدف «تحقيق العدالة الاجتماعية» الذى تضمنته وثيقة أهداف يوليو كما هو معلوم لانتقادات مريرة من خصوم الثورة، فالعدالة الاجتماعية ومحاولة تقريب الفوارق بين الطبقات هى أساس كل بلاء، وهى التى حطمت العمود الذى يرتكز عليه البناء الاجتماعى فى مصر، ناهيك عن أن الإصلاح الزراعى قد أفسد الزراعة، وأن القرارات التى رفعت من شأن الطبقة العاملة هى التى أفضت إلى غياب الدافعية إلى العمل وعوّدت هذه الطبقة المطالبة بجنى المكاسب مهما كانت إنتاجيتها، ولا أنسى ما حييت أن واحدا من أعتى خصوم عبدالناصر قال لى يوما إنه لم يكرهه فى حياته كما فعل بعد أن شاهد مقابلة تليفزيونية له مع صحفى أمريكى مشهور فى حديث إلى مجلة أمريكية واسعة الانتشار ــ قد تكون مجلة Time ــ وفيها سئل عبدالناصر ما هى الأمنية التى يتمنى تحقيقها لوطنه فكانت إجابته بلا تردد أنه يتمنى ألا يوافيه الأجل إلا بعد أن تختفى ظاهرة خدم المنازل. علق الخصم العتيد بقوله: من هنا بدأ الغوغاء يتطاولون علينا.

 

●●●

 

مرت السنون سريعة وتراجع العدل الاجتماعى فى مصر خاصة مع ازدهار برنامج الخصخصة وتفاقم ظاهرة تشريد العمال، وتحدث أركان المرحلة بثقة أن ثمة ثمنا اجتماعيا لابد أن يُدفع مقابل التقدم، لكننا دفعنا الثمن ولم نر تقدما يذكر، لكن ثقة المستغلين لم تكن فى محلها، فقد خرجت جماهير الشعب المصرى بعد أربعة عقود مرت على رحيل الزعيم الذى حاول قدر طاقته أن يحقق العدالة الاجتماعية، تطالب بتحقيقها لتعيد الاعتبار ــ ربما دون أن تقصد ــ لثورة يوليو وزعيمها، لكن مؤسسات الحكم فى دولة الثورة تبدو شديدة الاضطراب بعد أن ازدادت القيود على نحو فادح على حركتها صوب إعادة تحقيق العدالة الاجتماعية، الأمر الذى بات يهدد بتفجر ثورة جديدة قد تكون تكلفتها باهظة لا قدر الله.

 

غير أن ثورة يناير لم تكن مجرد محاولة لإعادة الزمن الجميل لثورة يوليو، لأن هذه الأخيرة كانت لها عثراتها الواضحة فى تحقيق أهدافها كما فى الهدف المتعلق بإقامة «حياة ديمقراطية سليمة»، ولابد من الاعتراف أولا بأن نظام الحكم فى مصر قبل ثورة يوليو لم يكن نظاما برلمانيا حقا بسبب دور الاحتلال البريطانى والملك، ناهيك عن اهتراء الأحزاب السياسية القائمة فى ذلك الوقت. وبالإضافة إلى ذلك كان عبدالناصر مسكونا بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للديمقراطية، وعليه فإنه لم يكن مفتونا بالديمقراطية الليبرالية فى حد ذاتها، وهكذا أجريت أول انتخابات تشريعية فى ظل الثورة عام1957، أى بعد خمس سنوات من قيام الثورة، بعد أن تصور عبدالناصر أن المناخ قد أصبح ملائما لتكوين سلطة تشريعية تعبر عن الثورة، غير أن مجلس الأمة وما تلاه من مجالس عانت جميعها من قيود سياسية واضحة جعلت من «الديمقراطية السليمة» التى سعت الثورة إلى تحقيقها مسألة فيها نظر، سواء كان ذلك يرجع إلى ضراوة المعارك الخارجية التى خاضتها الثورة، والتى كانت تتطلب وحدة وطنية متينة، أو إلى الطابع الكاريزمى لشخصية عبدالناصر الذى طغى دوره على المؤسسات، أو دور أجهزة الأمن التى بالغت فى إجراءات حماية الثورة وتأمينها.

 

●●●

 

تحاول ثورة يناير أن تكون لها كلمتها فى بناء ديمقراطية حقيقية فى مصر، ويتمنى المرء لهذه المحاولة كل نجاح، لكن الظروف والملابسات ما زالت تبعث على قلق عظيم بشأن مصير الديمقراطية فى مصر فى هذه المرحلة، من انقسام القوى الثورية، إلى وجود قوى قد يطيب لها تحويل نظام الحكم ولو من الناحية الفعلية إلى نظام شمولى بعد أن تفوز بالأغلبية فى الانتخابات التشريعية القادمة، إلى الشرخ الآخذ فى الاتساع بين قوى الثورة وبين المجلس الأعلى للقوات المسلحة، إلى الانفلات الأمنى الذى قد تغيب معه فرصة إجراء انتخابات منضبطة، إلى القوى الخارجية التى تحاول التدخل بالمال وغيره فى إعادة صياغة حاضر مصر ومستقبلها. ولا يوجد أمام ثورة يناير خيار سوى التغلب على هذه التحديات أو تحييدها من أجل بناء الديمقراطية فى مصر.

 

تاريخ الشعوب إذن حلقات متصلة، ولقد كان لزعيم ثورة يوليو إنجازاته التاريخية على الصعيدين الداخلى والخارجى، ولم تفعل ثورة يناير حتى الآن أكثر من الإطاحة برأس النظام السابق وأعوانه، غير أنها ما زالت تقف أمام باب الإنجازات، وتتردد فى طرقه، فلتكمل ثورة يناير مسيرتها من أجل الوطن، ولتبنى على ما سبقها من ثورات، وليهنأ زعيم يوليو بما حققه لأمته من إنجازات، وإن لم يستكمل بعضها، ويكفيه مجدا أنه كان قدوة لهذا الشعب، فلم يجرؤ أى من خصومه على التشكيك فى ذمته المالية أو فى أخلاقه، ووصفه أحد رجال المخابرات المركزية الأمريكية بأنه «نظيف إلى حد اللعنة»، فسلام على زعيم يوليو فى ذكرى رحيله، وتحية تقدير لشهداء يناير وأبطالها.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية