شجن أمطار الخريف - داليا شمس - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 10:23 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شجن أمطار الخريف

نشر فى : السبت 29 أكتوبر 2022 - 8:40 م | آخر تحديث : السبت 29 أكتوبر 2022 - 8:40 م
الأمطار والرياح تولت مهمة تعرية الأشجار، واحدة تلو الأخرى. انحدر بدراجته البخارية إلى شوارع حافلة بالضجيج بعد أن ترك المطعم الذى يعمل به، وقد وضع خوذة بلاستيكية على رأسه، وحول عنقه منشفة زرقاء لتحميه من البرد فلا يصاب بالتهاب فى الحلق، كفيل بأن يؤثر على حنجرته الذهبية.
فى الوقت الذى أعلنت الطبيعة عن غضبها، كان هو يشن هجماته مغنيا لتوصيل الطلبات إلى المنازل. يصدح ويرتفع صوته مغردا، وهو منطلق كالسهم مثل عادته، فرغم خروجه من هزيمة إلى هزيمة، إلا أنه لم يقل وداعا أبدا، بل يردد فى سره «إلى لقاء قريب» أو «فى انتظار جولات قادمة».
• • •
يتأمل قطرات المطر ويتابع ارتطامها بالزجاج وكذلك الأشكال التى تكونها عند سقوطها فى برك المياه الصغيرة، وفى أذنيه ترن بانسجام ألحان العود.
تنعشه رائحة المطر أو بالأحرى تلك التى تنبعث من الأرض، فقد اكتشف أخيرا أن المطر ليس له رائحة وأن الأريج الذى نشمه يأتى بسبب نوع من البكتيريا موجود فى الأرض. ضايقته الفكرة فى البداية، لكن سرعان ما تصالح معها وأضفى عليها صبغة رومانسية.
اغتبط بمنظر الصبية وهم يلعبون تحت المطر وسار فرحا مثلهم يشعر بحرية عارمة، رغم كون المدينة تغوص فى الوحل، فالمطر لا يعرى الأشجار وحدها بعد أن يغسل ترابها، بل يكشف أيضا الكثير من العورات... يُظهر الأعمال الارتجالية والتنفيذ غير المتقن والوجه المهترئ للمبانى القديمة وأزمة البالوعات والعديد من المشكلات المزمنة التى لا تحل عبر السنوات. بلد بأكمله عائم فوق بركة من الوحل.
• • •
يراقب من فوق دراجته الناس وهم يعبرون الطريق، وقد رص بعضهم طوبا أحمر لكى يتمكنوا من السير دون الخوض فى المياه. يأتيه من بعيد صوت عجوز تتمتم بدعاء المطر وهى تمر بحذر أعلى جسر الطوب البدائى: «مطرنا بفضل الله ورحمته. اللهم صيبا نافعا، اغفر لنا وارحمنا وسامحنا وتقبل منا»... تتوالى على لسانها كلمات تطلب فيها مغفرة الذنوب وزيادة الخير بوقت شح فيه الرزق، فيتعالى صوته بموال حزين يلائم الموقف وكأنه موسيقى تصويرية تصاحب مشهدا فى أحد الأفلام التى تروى أحداث مرحلة تهطل فيها التهديدات بغزارة أقسى من المطر.
ما هو آتٍ يتوقف على الطريقة التى سنتخلص بها من الماضى وكيف سنغسل ذنوبنا، فالريح تسوق الغيوم، تنظف الهواء أحيانا، وتلوثه أحيانا.
صوته يجلجل مع الرعد وقد صار على مقربة من بيته، فى منطقة ريفية على أطراف المدينة القاهرة، الغارقة فى همومها. تمهل فى السير قليلا فوجد نفسه إلى جوار الصفصافة الجميلة التى يتأملها كثيرا، ذهابا وإيابا.
شعورها الملقاة فى الترعة زاد بهاؤها بعد الاغتسال. لم يشعر قط أنها «شجرة خبيثة»، بل غاية فى الحنان واللطف والرقة، تطبطب على القلوب، ربما كان هذا المعنى هو ما أوحى للمصريين القدماء باستخدام أوراقها لتخفيف الصداع، تمهيدا لظهور الأسبرين بعدها بقرون بناء على بردية موجودة فى جامعة لايدن.
• • •
يرغب هو الآخر فى التخلص من آلام الرأس التى أصابته من طول المشوار. يتكرر أمامه مشهد الطوب الأحمر المتراص على الأرض لعبور المياه، وكأنه عنوان لما نعيش كل يوم، نحاول وضع الأشياء إلى جوار بعضها البعض لكى تسير الأمور.
آثار صفوف طويلة من الأحذية المستعملة، على الأرض، وهى مستهلكة جدا، أحيانا أحذية بفردة واحدة، بعد أن فُقِدت الثانية فى الطين.
السماء تزمجر، ثم تصمت مكتفية بألوان البرق الساطعة، وهو مستمر فى الغناء، سائر بعكس اتجاه الريح. تقول له هذه الأخيرة: «سافر يا صديقى! اهجر كل شىء وارحل، فالطيور هم الأحرار الوحيدون فى هذه الدنيا»، لكن إلى أين؟ فالعالم يضيق من حوله.
التعليقات