الشيطان الأصغر - فهمي هويدي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:31 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الشيطان الأصغر

نشر فى : الأحد 29 نوفمبر 2009 - 12:06 م | آخر تحديث : الأحد 29 نوفمبر 2009 - 12:06 م

 أرأيت الذى فعلته بنا وسائل الإعلام، حين لوثت مشاعرنا إزاء إشقائنا وخربت وعينا وأشاعت بيننا المرارة والبغضاء. ودفعتنا إلى مشارف القطيعة. وهى التى نفذت إلى حياتنا باعتبارها وسائل «للاتصال». إذ ليس جديدا ذلك التوتر الذى يشيع بين الناس بسبب مباريات كرة القدم، لكن الجديد هذه المرة أن الفضائيات دخلت على الخط فأججت الحماس واستدعت إلى ساحة «المواجهة» قطاعات عريضة من المواطنين، لم تكن مباريات كرة القدم تمثل شاغلا أساسيا لها. وأقنعت الجميع بأن الفوز بالكئوس والبطولات بات مسألة حياة أو موت بالنسبة للشعوب، بها تدخل التاريخ وبدونها تصبح بلا قيمة أو ذكر. وقد أشرت قبلا إلى نص نشرته جريدة الأهرام قال فيه كاتبه إن فقراء مصر ــ لاحظ تخصيصه للفقراء ــ لم يعودوا يطلبون شيئا فى حياتهم سوى أن تفوز مصر على الجزائر والتأهل لكأس العالم.

حدث ذلك فى مصر بوجه أخص، لأن التليفزيون بقنواته الثلاث فى الجزائر مملوك للدولة. وقد التزم الصمت ازاء ما جرى طوال الاسابيع الماضية، شأنه فى ذلك شأن الصحف الرسمية وتعامل هؤلاء وهؤلاء مع الأحداث بشكل خبرى عادى، بعيدا عن الاشتباك والتراشق والاثارة، لكن الصحافة الخاصة المسموح بها هناك، هى التى أثارت الضجة، حين روجت للاكاذيب وتحولت إلى منبر لاشاعة التعصب والتشهير والبغض، للدقة فإن صحيفة أو اثنتين فى الجزائر قادتا تلك الحملة الخبيثة سعيا وراء الإثارة أو التحريض والوقيعة. وقد نجحت الصحيفتان للأسف الشديد فى استدراج الإعلام المصرى إلى الاشتباك الذى تدنى فيه مستوى التراشق، واستخدمت فيه أوصاف هابطة، واتهامات بذيئة، وهذه كانت عنصرا مهما فى تعميق الشرخ واشعال نار الفتنة. ولأن الهبوط اسهل كثيرا من الصعود فإن بعض مقدمى البرامج تنافسوا فى الاسفاف والتجريح واستبد بهم الانفعال حتى ذهبوا بعيدا فى تجاوز الحدود المهنية والأخلاقية.

كان التليفزيون هو أهم أسلحة التعبئة والتحريض، لأنه الوسيلة الأسهل والأكثر جاذبية والأخطر فى التأثير، ولذلك استحق أن يوصف بأنه «الشيطان الأصغر» الذى أشاع الفتنة وسمم مشاعر المواطنين العاديين، الذين لم تكن لديهم مشكلة يوما ما مع الجزائر، بل كانوا يذكرونها بكل اعتزاز وتقدير، وإذا بهم لا يطيقون ذكرها، بعدما شحنهم البث التليفزيونى بفيروسات النفور والمرارة.

لا أبالغ إذا قلت إن الإعلاميين هزموا المثقفين ونجحوا فى أن ينقلوا الوباء إلى بعضهم. صحيح أن النداء الذى وجهه المثقفون فى أواخر الاسبوع الماضى أثبت أن قاعدة عريضة منهم مازالت محصنة ضد السوقية والابتذال، ومن ثم مازالت محتفظة بوعيها وسلامة إدراكها، إلا أن هناك اختراقات محزنة لذلك الموقف ظهرت بوادرها فى الاسبوع الماضى. إذ صدمت حقا واستغربت جدا أن يقدم المحامون على احراق العلم الجزائرى، وهو التصرف الذى استهجناه حين صدر عن بعض الغوغاء الجزائريين الذين أحرقوا العلم المصرى، ودهشت حين قرأت أن قسم اللغة العربية بكلية آداب عين شمس قرر وقف استقبال الطلبة الجزائريين لحين صدور اعتذار رسمى من حكومة بلدهم، وتملكتنى نفس الدهشة حين علمت أن أساتذة جامعة الأزهر طلبوا من الحكومة المصرية قطع علاقاتها مع الجزائر. واختلطت الدهشة بالحزن حين قرأت مقالة مثقف محترم هو الدكتور يوسف زيدان التى نشرتها صحيفة «المصرى اليوم» فى 25/11 حين وجدت أنه تبنى فيها خطاب النفور والتحقير الذى انطلق منه مقدمو برامج التليفزيون، إذ قال مثلا إن مصر انفقت من أموالها لكى تجعل الجزائريين عربا (رغم انهم قاتلوا الفرنسيين بشراسة دفاعا عن عروبتهم)، ووصف الجزائريين الذين عرفهم فى مرحلة الدراسات العليا بانهم «مثال للغباء والتعصب»، كما وصف الجزائر البلد بأنها «الوجود القاحل»، بل دعا إلى قطع العلاقات معها، معتبرا أن ذلك لن يضر مصر فى الأجل القريب أو البعيد.

إننا لانستطيع أن ندين الإعلام ونغلق الملف، لاننا ينبغى ألا نتجاهل السؤال: ما هى طبيعة وحدود العلاقة بين الإعلام والسياسة فيما جرى؟

فهمي هويدي فهمى هويدى كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.