(جاى لك خير صِرصْ داى.. قول إن شاء الله) - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 12:56 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

(جاى لك خير صِرصْ داى.. قول إن شاء الله)

نشر فى : الأربعاء 30 يونيو 2010 - 10:21 ص | آخر تحديث : الأربعاء 30 يونيو 2010 - 10:21 ص

 ليس عنوان هذا المقال إعلانا عن منتج جديد يغزو الأسواق المصرية فى زمرة البضائع الصينية التى أغرقت القرى والكفور.. وهو ليس اسما لمسلسل يزاحم المسلسلات التى نقلت فوضى المرور من الشوارع إلى الفضاء وقنواته.. كما أنه ليس اسم أحد الفراعنة الذين يعيشون أحلى أيام حياتهم أو مماتهم فى بلد يتمسح فى التاريخ بعد أن أصبح فى ذمته.. ولكنه أقرب ما يكون إلى الفعل الفاضح بلغة جون بول.. وصل إلى مسامعى مصحوبا بقهقهات عالية من مجموعة من الشباب.

. سرنى سماعها اعتقادا بأنها تصدر عن شىء يفرحهم ويلهيهم عن الاكتئاب الذى يسببه كابوس البطالة وشبح الغرق فى قوارب تأبى أن تكمل بهم رحلة البحث عن لقمة عيش أيا كان مصدرها.. وسألت أحدهم عن سر هذا الانبساط الشديد خشية أن يكون منبعه كيس بانجو ينتظر من ينجو من حياته بابتلاعه ليصبح هدفا سهلا لزبانية الأمن المحتمين بقانون الطوارئ..

صدمتنى الإجابة على بساطتها لأنها أعادت إلى ذهنى قائمة من المشاكل التى تظل تتفاقم رغم كونها تشغل الرأى العام ورغم تعدد الاجتهادات من ذوى الاختصاص ومن غيرهم. كانت الإجابة أنهم طلبة جامعيون وأن أحد أساتذتهم يدرسهم مادة بالإنجليزية لأنهم فيما يسمى «إنجليش» (لعلها تعنى إنجليزى بالعربية)، وعندما أنهى محاضرته ضرب لهم موعدا لاستكمال المحاضرة «صرصْ داى»، وأوضح لى أنه كان يقصد يوم الخميس.

صحيح أن المصريين عامة لديهم مشكلة فى إبراز الذال والثاء فى مواضعهما عند الرطن بلغة أجنبية.. غير أن ما أزعجنى هو أن القهقهة لم تكن مقصورة على تلك الكلمة، بل تناولت الأستاذ ومادته، وهو ما أعاد إلى ذهنى مشكلة التعليم العالى الذى يقال إنه أصبح ضرورة فى عصر يعتمد ليس فقط على المعرفة بأبعادها المختلفة، بل وعلى القدرة على تطويرها.

وبعد أن يبسمل الليبراليون (الجدد) ويحوقلوا على ما أصاب الاقتصاد المصرى من آفات على أيدى القطاع العام الذى هو نبت شيطانى للاشتراكية والعياذ بالله، وفى ظل إدانة الدعوة الباطلة للاعتماد على النفس وما صحبها من انغلاق، يجوبون أركان العالم بحثا عن مستثمر أجنبى حتى فى التعليم العالى لكى يعدوا النشء للالتحاق بمشاريع تنشئ مستوطنات غريبة داخل الحدود التى تبنى لحمايتها جدرانا من الفولاذ، ويملئون صفحات وساعات بأحاديث عن التنافسية التى تشهد تقارير عالمية بأنها بعيدة المنال، فلا هى وضعت علامة تجارية مصرية على قائمة التصدير، ولا هى ثبتت أقدام منشآت محلية فى الاقتصاد الوطنى، حتى ولو خفضت تكاليفها بالعمل فى بئر السلم.

على أن الأمر لم يقتصر على مجرد التندر بأسلوب نطق كلمة بلغة أجنبية، بل إن النقاش مع تلك المجموعة من الشباب أظهر أن الاستخفاف امتد إلى الأستاذ ذاته والمادة التى يدرسها، بل والعملية التعليمية بمجملها. وتتعدد الشواهد التى تظهر أننا بصدد مشكلة خماسية الأبعاد، تتناول كلا من المادة العلمية، ولغتها، ومدرسها، ودارسها، والمؤسسة التى يتخرج منها جيل يقضى سنوات التعلم الطويلة يحلم بمستقبل باسم، لينتهى به الأمر إلى شر البلية الذى يضحك.

وهذه المشكلة هى جزء من المشكلة العامة التى أظهرتها جميع الدراسات المعنية بالتنمية البشرية، وهى أن التعليم، الذى يعتبر الركن الأساسى فى تكوين القدرات البشرية وإعدادها لقيادة العنصر الحاكم فى التنمية، وهو المعرفة، هو نقطة الضعف الرئيسية فى مختلف الدول العربية، وفى مقدمتها مصر، ليس فقط بالقياس إلى الدول التى تصنف على أنها متقدمة، بل وبالمقارنة بدول تقاربها فى مستوى التنمية.

ورغم انشغال الجميع بقضية التعليم، تظل مستعصية على الحل. لا ينجو من ذلك التعليم الجامعى الذى يمثل المنصة التى ينطلق منها المشتغلون بالتعليم بمستوياته المختلفة، وبالبحث العلمى الذى بدون امتلاك ناصيته يبقى المجتمع أسير ما تسمح المجتمعات الرائدة فيه بالحصول عليه بالشروط التى تفرضها.

هناك اتفاق على ضرورة التخلص من آفة التلقين والاستذكار وما يليه من استظهار، التى تكسب العقل البشرى صفات الإسفنج، لا يضخ إلا ما سبق له امتصاصه. ويشار إلى أنه فى عصر المعلومات والاتصالات يكفى المرء أن يتقن أدوات البحث عن المعلومة، خاصة ما يستجد بعد إنهائه المراحل التعليمية، وأن يكتسب القدرة على التعلم الذاتى خلال حياته العملية ليواكب السرعة التى تتطور بها المعارف.

وتبدو الحاجة إلى تجسير الفجوة التى اتسعت فى الماضى، بإدخال دم جديد إلى مؤسسات التعليم العالى، سواء من خلال أقسام بلغات أجنبية (غالبا ما تكون التفافا على «مشكلة» مجانية التعليم) أو بإنشاء جامعات يطلق عليها اسم دولة متقدمة، أو فروع لجامعات أمريكية وأوروبية وهو النمط الشائع فى دول الخليج.

وبحكم أن مثل هذه المعاهد تقع خارج مظلة الدولة، فإنها تتقاضى مصروفات تنشئ تمايزا طبقيا بين فئات المجتمع، سواء طلبة أو أساتذة، ويشيع مناخا يحط من شأن المؤسسات التعليمية الحكومية المتاحة لأبناء الأغلبية غير القادرة.

هناك تمايز من نوع آخر نتيجة اختلاف الانتماءات، وما يتبعه من اختلاف المدارس المعرفية. وفوق هذا فإن البعد المالى يجعل من تلك المعاهد استثمارا مضمون العائد، دون أن تتوافر له بالضرورة الإدارة المستنيرة سواء على المستوى الأعلى، أو على المستويات المكتبية الأدنى التى قد تفوق فى بيروقراطيتها دواوين الحكومة. ويجد فيها بعض أعضاء هيئات التدريس مصدرا لدخل إضافى يريحهم من مشاق الانشغال بأبحاث علمية جادة لا توفر لهم عائدا ماديا يوازى عائدها العلمى.

وهناك من المؤشرات ما يوحى بأن التحصيل المعرفى فى هذا النوع من التعليم لا يوازى نظيره فى الدول التى ينسب إليها أو ما يماثله فى دول أخرى، فيضطر الراغبون فى الالتحاق بدراسات عليا فيها إلى استكمال تعليمهم بتكلفة أخرى. كما أن التحصيل اللغوى لا ينجو من آفة «صرصْ داى»، أو من ارتكاب أخطاء إملائية مصحوبة بالضرورة بضعف فى التعبير العلمى بلغة عربية سليمة، وهو ما ينتهى بالخريجين إلى تشكيل كتلة اجتماعية غير قادرة على التواصل مع باقى المؤهلين فى مجالات تخصصهم.

ومن خلال اتساع الفجوة مع المجتمع، تتأرجح ثقافتهم بين المنظومة الوطنية التى تتعرض للنقد لارتباطها برواسب التخلف التى تعمقها مراحل التعليم الأولى، والمنظومة المرتبطة بالمجتمعات التى تنتمى إليها المعاهد التى يدرسون فيها، أو بالأصح ببعض مظاهر تلك الثقافة، وهو ما ينشئ حالة من المسخ الثقافى.

إن معالجة شئون التعليم على هذا النحو الذى يسوق حلولا لمشكلات عن طريق الالتفاف عليها، شأنها شأن معالجة شئون الاقتصاد بأساليب مستمدة من نظم رأسمالية فى بيئة لا يمكن وصفها سواء بالرأسمالية أو الاشتراكية، هى تعبير صارخ عن فقدان الرؤية وغياب الإستراتيجية التى أصبحت هى الصفة المميزة للمجتمع المصرى منذ السبعينيات. قد نستطيع أن نمضى على هذا النحو فى الجانب الاقتصادى لنكتشف بعد وقت أننا إزاء ما سماه السيد وزير الاستثمار «فتة محلولة»، فنتخذ إجراءات نتحمل تكلفتها. أما التعامل مع التعليم بنفس المنهج أمر غير مقبول، لأنه غير إنسانى.

إن فيه حكما على شباب أن يضيع ما تبقى من حياتهم فى عصر ترتفع فيه متوسطات الأعمار، فى متاهة تباعد بينهم وباقى العالم. ولا يكفى الحديث عن تعليم لا يوفر احتياجات سوق العمل، امتدادا للتفكير السوقى، بل علينا أن نرسم خريطة تعليمية تحدد لنا معالم الاقتصاد والمجتمع فى المستقبل، وتضع المصرى فى موقعه اللائق من عالم تتسارع خطاه وتتشابك أطرافه.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات