استعادة الاستعمار.. الدعوة جادة - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 5:42 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

استعادة الاستعمار.. الدعوة جادة

نشر فى : الخميس 31 يوليه 2014 - 8:25 ص | آخر تحديث : الخميس 31 يوليه 2014 - 7:33 م

يتحقق الآن أبشع ما جال فى خاطر البعض منا فى أعقاب حصول شعوبنا على استقلالها، خفنا من احتمال أن يفشل مشروع الاستقلال الوطنى، فنعود نحن إلى أيام الاستعمار. لم يفشل بعد «تماما»، ولم تخرج مظاهرات مليونية أو مئوية تطالب بعودته. من ناحية أخرى لم يعلن بعد وفاة النظام الدولى الذى حل محل النظام الاستعمارى. هذا النمط من القواعد والعلاقات الذى قاد البشرية على امتداد مائة وسبعين عاما. لم تعم الفوضى بعد أغلب أرجاء الكوكب ولكنها سائدة ومهيمنة فى أجزاء كبيرة منه. لم يصل بعد عدد الفقراء فى عالم اليوم إلى حده الأقصى المتوقع، ولكنه يقترب منه بسرعة مخيفة. تفاقمت ظاهرة هجرات القوارب، التى بدأت مع نهاية الحرب الفيتنامية، تفاقمت وتطورت. تفاقمت منذ أن صارت تهدد شواطئ أوروبا الجنوبية بجحافل غزو منظم. وتطورت إلى حد صارت أغلبية المهاجرين من أطفال يعسكرون على امتداد الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.

هذه الظواهر، وغيرها كثير، لم تتجاوز بعد الذى يبرر هذه الدعوة المحمومة فى بعض الكتابات الغربية لاستعادة الاستعمار. يعتقد منظرو هذه الدعوة أن الاستعمار هو «النظام الدولى» الوحيد القادر على إبطاء معدلات تدهور أحوال العالم الثالث، ووقف الحروب الأهلية أو تحريمها كما فعل فى إفريقيا فى القرن التاسع عشر. هو أيضا النظام الأقدر على إنقاذ الأغنياء من زحف الفقراء، وفرض «الأمن والسلام» فى المواقع الاستراتيجية فى العالم، مثل الممرات البحرية والبرية، ومصادر الطاقة والمواد الخام، ومعامل تفريخ العنف والإرهاب.

•••

أجد لهؤلاء المحللين المتحمسين لاستعادة الاستعمار بعض العذر. أهمية الطرح الذى يقدمونه يكمن فى أنهم فى حقيقة الأمر يحذرون وينبهون إلى حقيقة واقعة، وهى أن مسالك عديدة انسدت فى وجه جهود تحقيق الأمن والاستقرار فى الشرق الأوسط تحديدا وأفريقيا ووسط آسيا عموما، وانسدت فى وجه جهود رفع الضنك الشديد عن الفقراء وتضييق الفجوة التى تفصل بين الأغنياء والفقراء، وبخاصة بعد أن صارت الفجوة المتفاقمة جزءا أصيلا من «عقيدة» الحالة الدولية القائمة، وصار لها منظرون يبررون وجودها ويشجعون على تفاقمها ويضغطون ضد مقاومتها.

ماذا يمكن أن يقال، بحسن النية أو بغيره، عن الشرق الأوسط الراهن سوى أنه صار أشبه ما يكون بأحوال أفريقيا قبل وصول المستعمر الأبيض. قبائل تتصارع حتى الموت، بشر يُباعون ويُشترون ونساء تنتهك أعراضهن وأجيال متعاقبة من أطفال بلا أهل ولا مأوى. شعوب تموت من الجوع والمرض وتخضع فى حياتها لهيمنة كهنوت من السحرة والمشعوذين، لا حكومة أو جهة مركزية تفرض الطاعة بدون قمع أو تعذيب أو استهانة بقيمة الإنسان، ولا قانون يحكم ويحتكم إليه الناس، لا أمل فى مستقبل.

قد لا يكون هذا الحال حال الشرق الأوسط بكامله، ولكنه بالتأكيد حال بقعة واسعة من الإقليم تزداد اتساعا منذ أن تقرر احتلال أفغانستان وبعدها العراق، ومنذ أن انفرط عقد النظام الإقليمى العربى دون أن يجتمع أعضاؤه على بديل شرق أوسطى أوسع أو بدائل «إقليمية» متعددة، أو حتى على بديل انفراط على أساس كيانات قطرية مستقلة.

وفى قلب الشرق الأوسط، وهى بالفعل فى قلبه، تدهورت قضية فلسطين بمعنى التوسع فى تهويدها أرضا، وفى تهويد توجهات بعض قيادات النخب السياسية الحاكمة فى الوطن العربى. اختارت إسرائيل التعامل مع حكومات المنطقة العربية والإسلامية بمنطق التقاليد الاستعمارية، معتمدة على دعم جميع الدول الغربية. و لا شك أن التجربة أثبتت نجاحها بدليلين: استقرار الأمن حيث طبقت، وانفجار المقاومة والعنف حيث لم تطبق، كما فى غزة.

لذلك لم تكن مفاجأة أن أسمع معلقا أجنبيا يعلق على الدعوة التى تبناها رئيس السلطة الفلسطينية، بمباركة قانونية من الدكتور نبيل العربي، الأمين العام لجامعة الدول العربية، ومباركة سياسية من مجلس الجامعة أعلى مؤسسات القرار فى النظام العربى، بوضع فلسطين تحت الوصاية الدولية. كان أهم ما جاء فى تعليقه اعتبار أنها الدليل المؤكد على أن المسئولين العرب قد توصلوا إلى قناعة قوية لا يعلنونها صراحة ولكن يضمنونها قراراتهم وسياساتهم الخارجية. وهى أن أساليب الاستعمار القديم ربما كانت الأنجع، أو الوحيدة، للمحافظة على ما تبقى من أرض، وضمان الحد الأدنى من الاستقرار والأمن والتعليم والصحة، ووضع خريطة سياسية جديدة للمنطقة تصلح لقرن قادم أو قرنين، وفى مقابل هذا تتعهد القوى الحاكمة تأجيل مطالب الكرامة والحرية والاستقلال الوطنى.

•••

سمعنا النغمة ذاتها تتردد فى واشنطن وعواصم أمريكا الوسطى وسط الضجة السياسية والإعلامية التى أثارتها قضية نزوح أطفال أمريكا الوسطى إلى الولايات المتحدة. سمعنا خوان هرنانديز وأوتو بيريز مولينا وشافيز سيرين رؤساء جمهوريات هندوراس وجواتيمالا والسلفادور يطلبون من القادة الأمريكيين تحويل المبالغ التى تنفق على حراسة الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، (عشرون مليار دولار)، إلى حكوماتهم للإنفاق منها منفردة أو بإشراف أمريكى على مشروعات التنمية. قال الرؤساء إن الهجرة تتزايد لأن الفقر يتفاقم، ولأن أمريكا بحربها الطويلة ضد مهربى المخدرات خربت اقتصاد دول أمريكا الوسطى بعد أن خربت اقتصاد كولومبيا والمكسيك. تحادث الرؤساء الثلاثة مع الرئيس أوباما وأعضاء الكونجرس. حاولوا إقناع الأمريكيين بأن الحل موجود وسهل. الحل الذى يقترحونه هو فتح الحدود الجنوبية فى وجه المهاجرين وليس إغلاقها. وقد وجد الرؤساء آذانا صاغية من بعض أعضاء الكونجرس قال أحدهم مبديا تعاطفه مع المهاجرين: «كلنا أمريكا». نادى آخرون بضرورة استقبال الأطفال المهاجرين ومنحهم حق اللجوء. من ناحية أخرى، اشتد ساعد الرافضين للهجرة، ومنهم حاكم ولاية تكساس الذى حشد قوات الحرس الوطنى لمنع المهاجرين غير الشرعيين من دخول البلاد. جاءت المفاجأة الكبرى من الرئيس أوباما الذى ظهر فى اجتماعه برؤساء أمريكا الوسطى مكتئبا، وبخاصة حين أعلن استعداد واشنطن منح حق اللجوء إلى الراغبين فى الهجرة من أمريكا الوسطى بشرط عدم تغيير محال إقامتهم، ليتمتعوا بمزايا المواطن الأمريكى وحماية الولايات المتحدة وهم فى بلادهم، أو على الأقل لحين مغادرتهم البلاد. أعلن كذلك عن خطة لمواجهة الأزمة تستند إلى فكرتين، إحداهما شن حملات إعلامية لتوعية أهالى أمريكا الوسطى بعدم الهجرة، والثانية فكرة حشد قوات عسكرية أمريكية ومن دول أمريكا الوسطى مهمتها مطاردة العصابات التى تتولى تشجيع الأطفال على الهجرة إلى الولايات المتحدة.

لم تحصل قرارات الرئيس أوباما على رضاء الكثيرين، سواء فى الكونجرس الأمريكى أو فى دول أمريكا الوسطى، أو على مستوى رؤساء دول أمريكا الجنوبية بشكل عام، بل راح معلقون أمريكيون يسخرون منها باعتبار أنها لم تكن على مستوى الأزمة الحادة التى تواجهها العلاقات بين الأمريكتين. راحوا أيضا يسخرون من فكرة عودة الولايات المتحدة إلى تبنى سياسات استعمارية، حتى أن أحدهم اقترح على الحكومة الأمريكية ترشيح أسماء معينة من كبار نساء ورجال الكونجرس لتولى مناصب «نائب الملك»، أى ممثل الامبراطورية الأمريكية، وأسماء أخرى مناصب وزارة فى حكومات المستعمرات التى ستشكلها واشنطن لإدارة شئون أمريكا الوسطى وغيرها.

•••

الأمر ليس كله هزلا، وليس كله أسود قاتما، وهو فى كل الأحوال جد خطير ولابد من تداركه قبل فوات الأوان. أقول، عن منطقتنا على الأقل، إن الأمر جد خطير. ولدى من الأسباب ما يبرر هذا الرأى، أعرضها باختصار:

أولا: تزداد أحوال الفقراء والفقر عموما سوءا عاما بعد عام، ولا يقتصر على دولة دون أخرى، فهى متفاقمة فى العراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا ومصر وفلسطين. لن يفيد طويلا مد أمد المساعدات النقدية وعقد عدد لا نهائى من مؤتمرات المانحين وإقامة مشروعات استثمارية هدفها الربح العاجل ولا تراعى ظروف الفقر الضاغط والاستقطابات السياسية وفساد مختلف المؤسسات.

ثانيا: يزداد اقتناعى بأن النظام الدولى الذى قام فى أعقاب الحرب العالمية الثانية دخل بعمق فى مرحلة الفشل. أعرف زملاء وأصدقاء يفضلون الرأى القائل بأن النظام الدولى منتهى الصلاحية وانتفى الغرض من وجوده. تزداد المشكلة تعقيدا عندما نكتشف أن لا بديل لهذا النظام تبلور فعلا أو مازال فى مرحلة التكوين. نعرف أن فى مثل هذه الأوقات الحرجة التى تشهد تحولات فى النظام الدولى تشتد الاضطرابات وتعم الفوضى الإقليمية والدولية وتفشل دول وتنهار أو تضعف مؤسسات وتغيب أعراف دولية. وفى كل الأحوال أعتقد شخصيا أن الاستعمار كنظام دولى يصلح فى الظروف الراهنة بديلا للنظام الدولى القائم.

ثالثا: الكثير مما يقال فى أزمة النظام الدولى فى مرحلة التحول الحالية يمكن أن يقال عن أزمة النظام الإقليمى العربى، وهى الأزمة التى تستحق أن يتفرغ لها على الفور المتخصصون فى العلاقات الدولية والعربية وفى التنظيم الدولى. أقول لهؤلاء وللمسئولين المهتمين بالعمل العربى المشترك، أو على الأقل بمن تبقى منهم ولم يبلغ به اليأس ما بلغ بآخرين، أقول لكل هؤلاء إن الأزمة حقيقية وخطيرة ليس فقط لأنها تعكس حال تفكك إقليمى وانفراط مؤسسى وتنظيمى، ولكن ايضا لأنها تعزز رأى بعض علماء السياسة بأن مشروع الدولة القطرية، وبالتالى مشروع الاستقلال الوطنى من أساسه، قد تجاوز هو الآخر مدة صلاحيته. الدولة القطرية قررت، وإن بتردد ملحوظ، أن تنفرط شيعا وقبائل واعراقا، قررت أن تعود إلى حالتها الطبيعية قبل أن يتعهدها برعايته وهيمنته الاستعمار الغربى. يبدو أيضا أن بعض النخب السياسية بدأت تبحث عن أشكال عصرية مبتكرة لنظام استعمارى يساعدها فى إدارة شئون بلادها ، أو يديرها بنفسه.

رابعا: أذكر أننا دعمنا فى وقت من الأوقات جهود دول رائدة فى العالم الثالث لإقامة نظام اقتصادى وسياسى جديد يصحح مسيرة النظام الدولى أو ترميم ما تصدع فى هياكله. قامت وسقطت تجربة عدم الانحياز، ونهضت وفشلت تجارب التكتلات الأفريقية الآسيوية، والآن تحاول مجموعة دول البريكس الخمس إقامة نظام دولى فرعى ينبه ويصحح ويضع شرخا أو أكثر فى نظام الهيمنة، ولكن الصعوبات التى تقابل جهود البريكس هائلة والنجاح يبدو بعيدا جدا.

•••

لا يهم الآن الرأى فى حجم الجد والهزل فى مضمون وهدف الدعوة لعودة الاستعمار، فى شكل أو آخر، لإدارة شئون دول العالم الثالث. الأمر الواضح تماما هو أن الأوضاع الراهنة فى الشرق الأوسط لم تعد تتحمل سلوكيات الفوضى والاسترخاء المستشرية فى أداء صناع السياسة العرب. الأمر جد خطير.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي