(1)
من المفارقات المدهشة والعجيبة فى زمننا هذا، أن نرى احتفاء غير مسبوق ببعض رموز الفكر والثقافة المصرية والتمسك الشديد بإبراز قيمة هؤلاء الأعلام (ولو بمسحة إعلامية دعائية) ومحاولة توظيف قيمة وشهرة هؤلاء (على المستوى العربى والعالمى والإنسانى عمومًا) فى تعطير الأجواء العامة المزكومة بقليلٍ من الشذا! وذلك كله فى الوقت الذى تندلع فيه دون أى مبرر ولا منطق معقول حملة إعلامية مضادة للإنسانيات والفلسفة والاجتماع واللغات والتاريخ والتقليل من أدوارها وأهميتها وقيمتها فى التعليم العام والأساسى! المفارقة المدهشة والعجيبة أن كل هؤلاء الرموز الذين صاروا الآن محلًا للاهتمام والتقدير والتوظيف، كلهم بلا استثناء نتاج هذه الإنسانيات وثمرة لدراستها والتخصص فيها، والانطلاق منها لتحقيق ما حققوه من إنجاز عظيم على المستوى المحلى أو العربى أو العالمى.
(2)
نشأة الجامعة المصرية المؤسسة الحداثية التى استوعبت أفكار النهضة والتنوير والتحديث، كانت بذرتها وأسسها هى العلوم الإنسانية (الآداب والتاريخ والفلسفة واللغة العربية) وفى رحابها اتسعت الدعوة وانتشرت لترسيخ العلوم الطبيعية وتدريسها وتوطينها وهكذا ازدهرت الدراسة فى الآداب والحقوق جنبا إلى جنب الدراسة بالعلوم والطب، فكلاهما جناحان متوازيان ومتوازنان فى أى مشروع كبير وعملاق للنهوض القومى! وهناك ملحمة عظيمة لا أعلم إن كانت كُتبت أم لا دارت رحاها بين الأساتذة المصريين الوطنيين من أبناء الجامعة المصرية ومن خريجيها، وبين الأساتذة الإنجليز بالأخص حول استقلال الدراسة بهذه الأقسام والكليات العلمية، ووضعها بين أيدى أبنائها من المصريين. ولعل هناك إشارات ولمحات عن ذلك فى سيرة الأستاذ العظيم والجليل على مصطفى مشرفة الذى نباهى به ونفخر، وننسى أنه كان مثقفًا عظيمًا ونال حظا عظيما من الثقافة «الإنسانية» فى الأدب واللغة والمعرفة الموسوعية الواسعة!
(3)
ولولا طه حسين، وأبناء جيله العظام، ومن خرَّجهم أو تخرجوا على يديه من الرعيل الأول والثانى وما تلاهم حتى منتصف القرن العشرين تقريبًا، ما تكحلت عيون الثقافة المصرية والعربية بما تكحلت به من ثقافة وفنون وعلوم، وتطور مذهل شهدته مصر وكرست زعامتها الروحية وقوتها المعنوية (أو قوتها الناعمة كما صار يتردد فى أدبيات الحديث عن تلك الفترة). فى هذه الفترة درس نجيب محفوظ بالجامعة المصرية، وتخرج فيها عام 1934 من قسم الفلسفة بكلية الآداب، وقد تتلمذ فيها على يد الشيخ الجليل مصطفى عبد الرازق صاحب «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»، وصاحب الأثر العميق فى تكوينه وثقافته ورؤيته الإنسانية والثقافية عمومًا. وكل من قرأ شيئًا عن نجيب محفوظ أو اتصل بسيرته أو ألم ولو بطرف يسير عن رحلته العظيمة فى الحياة والأدب، يعلم جيدا قصة الصراع الذى اندلع بداخله بين الأدب والفلسفة وأنه حسم هذا الصراع بغير رجعة لصالح الأدب دون أن يعنى ذلك تخليه عن الفلسفة التى كانت تجرى منه مجرى الدم فى العروق! لولا الفلسفة ما أنجزه محفوظ بناءه الشاهق الذى جعل العالم يلتفت إلى أدبنا المعاصر ويراه بعين التقدير والإجلال، لولا الفلسفة ما كتب نجيب محفوظ رواياته وقصصه المدهشة التى ما زالت قادرة حتى وقتنا هذا فى اجتذاب العديد والعديد من الشباب والإقبال عليها وقراءتها واكتشافها مجددا!
(4)
لولا الفلسفة ما دافع محفوظ عن العلم دفاعًا مجيدًا وحرًّا وشريفًا، ودعا إلى الأخذ بكل أسباب الحضارة والتقدم والتمدن، ومن خلفية واثقة تقف على قدم المساواة والندية بأبناء الحضارات الأخرى والثقافات المتعددة! «الفلسفة» هى التى هذبت طباع محفوظ، ومنحته ما أطلق عليه «العزاء العقلى»، وجعلته كما عبَّر بحب كبير وصادق عن امتنانه للسنوات التى أمضاها طالبا بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، يقول: «الفلسفة علمتنا أشياء كثيرة فى سبيلنا، علمتنا كيف لا نتسرع بالحكم، ونتأمل الأشياء. وكيف نتسامح للدرجة التى لا تُخلّ بأن لكل شىء أكثر من وجه، وكل موقف له خلفياته، وكان الواحد منا فى أشد الأزمات، البعيدة عن الفلسفة، فتعطى له قدرًا كبيرا من العزاء العقلى؛ لأن هناك عزاء عقليا مثل العزاء الروحى تماما». لولا الفلسفة ما أرهفت بصيرة هذا الرجل التى كانت من القوة والسطوع للدرجة التى تجعلها تخترق حجب وغيوم السنوات والأيام لتقول لنا إنه كان «بصيرًا رائيًا من أهل الحكمة»، متعزيًا بالفلسفة ومتأملًا بها، قادرًا على أن يقول لنا الآن (فى 2024) إن مشكلتنا الكبرى ليست فى السياسة إنما فى الثقافة.. وأن الثورة التى نحتاجها على الحقيقة ثورة تعليم وثقافة وتحرر من «اللفظيين»..