اقرأ ما كتبه الراحل أحمد كمال أبو المجد عن «تجديد الفكر الإسلامي» منذ 17 عاما - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:07 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اقرأ ما كتبه الراحل أحمد كمال أبو المجد عن «تجديد الفكر الإسلامي» منذ 17 عاما


نشر في: الخميس 4 أبريل 2019 - 1:23 م | آخر تحديث: الخميس 4 أبريل 2019 - 3:26 م

لا يخطر ببال المسلمين التهوين من قدسية النصوص القرآنية والنبوية.. لكن التجديد هو السبيل الوحيد لنهضة الأمة
العقل المسلم المعاصر يجب أن يعيد النظر بجسارة وثقة في العقبات التي توضع على طريق التجديد
حبس الأمة في إطار التقليد ينافي مبدأ استصحاب الحال.. والتناقض بين آيات الله ورحمته "موهوم"
نقول في من عدا أصحاب رسول الله: هم رجال ونحن رجال.. وليس صحيحاً أن "الأول لم يترك للآخر شيئا"

 

في عام 2002 أقام المجلس الأعلى للشئون الإسلامية مؤتمره الثالث عشر عن التجديد في الفكر الإسلامي، وقدم فيه المفكر الراحل الدكتور أحمد كمال أبو المجد ورقة بحثية بعنوان "تجديد الفكر الإسلامي: إطار جديد ومداخل أساسية" ضمنها أبرز أفكاره في هذا المجال الذي بحث فيه معظم سنوات عمره.
وتعيد "الشروق" نشر هذه الدراسة نظراً لأهميتها في ظل تصاعد الدعوات الحالية لتجديد الخطاب الديني وتبني الدولة المصرية لها رسمياً.

يطرح أبو المجد في هذه الدراسة عدة نقاط مهمة منها:
- التمييز بين تياري المحافظة والتجديد وشرح سمات كل منهما.
- خصائص التيار المحافظ والمخاوف والعقبات التي يضعها لعرقلة التيار المجدد.
- تفنيد تلك المخاوف وتعريتها أمام مقاصد الشريعة وحاجات الأمة المتطورة.
- الدعوة للخروج من ثنائية (المحافظة - التجديد).
- الرد على دعاة العزلة ورفض الأفكار الجديدة.

وفيما يلي نص الورقة البحثية:

يكاد مؤرخو الحضارات يجمعون على أن الحضارات الإنسانية ليست أبنية ثابتة تتحدد معالمها مرة واحدة، ثم تبقى على حالها.. وإنما هى أشبه بالكائنات العضوية الحية.. لها لحظة ميلاد.. ولها بعد ذلك مراحل نمو وتطور.. تنتقل فيها تلك الحضارات بين الارتفاع والازدهار فى مرحلة من تاريخها والتراجع والانكماش فى مرحلة أخرى من ذلك التاريخ.

كذلك يسجل تاريخ الحضارات وجود تيارين متقابلين داخل كل حضارة.. أحدهما تيار محافظ شديد التمسك بالثوابت التى حددت- فى لحظة تاريخية قديمة- هوية تلك الحضارة.. وتيار آخر حريص على تجديد الحضارة، وملاقاة ما يحمله اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال من مستجدات لم تكن قائمة لحظة ميلاد تلك الحضارة.. وذلك بتجدد وتطور مواكبين لتلك المستجدات.. يكفلان للثقافة مزيدا من الحيوية، ويحققان لها مزيداً من فرص الاستمرار والبقاء.

إنه على الرغم من دور " الوحى" فى تحديد معالم الثقافة ومواقفها الأساسية من القضايا الوجودية الكبرى المتصلة بالإنسان والكون، والخالق، ومصير الحياة.. فإن دور "العقل " والتجربة الإنسانية فى ملء تفاصيلها، وتغذية تجلياتها، يظل دوراً بارزاً لا يتصور إغفاله أو إنكاره.. ولهذا تبقى "الثقافة الإسلامية" فى نهاية المطاف ثقافة إنسانية تتعرض لما تتعرض له سائر الثقافات، من مد وجزر، وارتفاع وانخفاض.. كما يظل المسلمون- عرفوا ذلك أو لم يعرفوه- جزءاً من التاريخ العام للإنسانية- كما يظل سلوكهم جزءاً من تيار السلوك الإنسانى، تحكمه ذات السُّنن والضوابط التى تحكم الناس فى مسيرتهم عبر التاريخ.

لهذا كله لم يكن غريباً أن يعرف تاريخ الثقافة الإسلامية، وتاريخ الفقه الإسلامى بصفة خاصة تيارين متقابلين، يميل أولهما إلى المحافظة الشديدة، ويخاف على الإسلام أشد الخوف من أن تضيع معالمه وتهتز ثوابته بسبب نزوع فريق من المسلمين عامتهم وخاصتهم وفقهائهم إلى "التجديد"، وإدخالهم على ثقافة المسلمين وشريعتهم أموراً لم يكن يعرفها أهل القرن الأول للإسلام.. ويعتصم هذا الفريق بالنصوص القرآنية والنبوية لا يكاد يعدوها.. بل لا يكاد يعدو حروفها وظواهرها، وذلك إيماناً بأن هذه النصوص وحدها التى تحمل الخصائص الذاتية النفيسة للإسلام وثقافته وتصوراته الأساسية فى الاعتقاد والأخلاق والسلوك الفردى والتنظيم الاجتماعى.. أما التيار الآخر فإنه يجعل للعقل دوراً بارزاً إلى جانب دور النصوص.. إيماناً بأن النصوص، خصوصاً فى أمور التشريع والنظام السياسى والاجتماعى، نصوص متناهية، وأن الحوادث والنوازل وما يعرض للناس من حاجات.. أمور غير متناهية.. وأن كمال الشريعة وخلودها لا يمكن أن يتحققا إلا بأمر"وراء ما فهمه الفريق الأول من النصوص ومن الشريعة.. وهؤلاء هم الذين يطلق المؤرخون عليهم أو يطلقون هم على أنفسهم وصف "المجددين"، ويلتمس هذا الفريق أساساً لشرعية منهجه من الحديث الشريف الذى رواه أبو داود وغيره والذى يقول: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقى)..

ويعرف دارسو الفقه وعلماء الشريعة ومؤرخو الثقافة الإسلامية روافد هذين التيارين، عالم كل منهما.. ويصفون أتباع التيار الأول فى مجال العقائد وأصول الدين بوصف السلفيين، كما يصفون التيار الآخر بأنه تيار "المجددين".. ويقابلون فى خصوص الفقه وأصوله بين مدرسة "الحديث " التى نشأت ونمت فى مدينة النبى- صلى الله عليه وسلم- ومدرسة "الرأى" التى نشأت ونمت فى بغداد والكوفة.

وهذا البحث لا يتوجه إلى دراسة معالم هاتين المدرستين فى ميدان " الفقه " وحده.. وإنما يتوجه إلى دراسة أمر يتجاوز "الفقه " ومدارسه.. ليمتد إلى الفكر الإسلامى فى عمومه ومجمله.. وإلى " العقل المسلم " المعاصر ومناهجه الغالبة والسائدة فى تعامله مع الواقع الموضوعى الذى يتجدد من حوله، ومدى قدرته على تجديد فهمه لدور "الدين " فى التعامل مع هذا الواقع المتجدد.. وفى هذا الإطار نستطيع من جانبنا أن نقابل بين منهجين متقابلين.. اخترنا أن نسمى أولهما منهج "الجمود على الموجود" وأن نسمى الآخر منهج "التجديد" فى فهم مضامين الإسلام والتجديد فى المضامين والأولويات التى يجرى بها تعامل "الخطاب الإسلامى" مع جموع المسلمين من ناحية، ومع سائر الأمم والشعوب من ناحية أخرى.. وفى الثقافة الإسلامية المعاصرة استقطاب واضح تحددت من خلاله معالم هذين المنهجين.. على النحو الذى سنفصله فيما يلى.. ولكنا نسارع فنقول إن المواجهة بين هذين المنهجين قد صارت تستهلك القدر الأكبر من طاقة المسلمين جميعاً، وتستغرق الجانب الأكبر من جهود مفكريهم وخاصة علمائهم.. وهو استغراق يهدد مستقبل الأمة.. وينتقص من فرصتها فى اللحاق بالآخرين.. وفى التأهل لأداء دور الريادة والقيادة الذى عبرت عنه الآية القرآنية الكريمة رقم 143 من سورة البقرة ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة: 143).

إن أخص خصائص المنهج الأول الأمور التالية:

1- الاستغراق الكامل فى النصوص، والوقوف بصفة خاصة عند الأحكام الفرعية التى تستخلص من هذه النصوص.. والوقوف- فوق ذلك- عند ظواهر تلك النصوص.. واعتبار ذلك من علامات الاتباع المحمود، الذى يقابل "الابتداع " المذموم، والتوقف عن البحث الطويل فى حكمة التكليف ومقاصد التشريع وأولويات المطالب الدينية للأفراد وللأمة، وعن النظر فى إمكان تغير تلك الأولويات باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال.

2- إساءة الظن بكل مذهب أو رأى أو اجتهاد يدعو إلى استخدام العقل والتعويل عليه فى استنباط الأحكام الفقهية وتقرير الأمور الدينية.. واعتبار هذا الاستخدام تهديداً لقدسية الشريعة، ومدخلا لتحكيم الهوى، وتمرداً على حكم الله الذى تقرره الآية القرآنية الكريمة: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) (الأحزاب: 36).. ويلخص أتباع هذا المنهج موقفهم من هذه القضية بقولهم: إن الشريعة حاكمة لا محكومة.. وأن على المؤمنين بها أن يطبقوا أحكامها الكلية والجزئية ( ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) (النساء: 65).

3- المبالغة فى تقديس آراء علماء القرون الأولى من تاريخ الإسلام ومتابعة تلك الأقوال والآراء امتثالاً لما ورد به حديث النبى- صلى الله عليه وسلم- : "خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم "، ولما اشتهرعنهم من الجمع بين العلم والعمل به، وبين المعرفة والتقوى.. على نحو كانوا معه أئمة فى العلم وقدوة للأمة فى السلوك والعمل.. وليس هذا- فيما يرى أتباع تلك المدرسة حال المحدثين من العلماء والمشتغلين بالفقه، بل إن هؤلاء المحدثين- فى نظر أتباع هذه المدرسة- مظنة الافتتان بحضارات الآخرين، والاستعداد العقلى والنفسى لتقبل آراء أولئك الآخرين.. وتعريض خصوصية الإسلام، وثوابت عقيدته وشريعته لأخطار عظيمة.

4- المبالغة فى رفض كل فكرة وافدة، والحذر الشديد من الأخذ بشىء مما عليه أتباع الحضارات الأخرى والانحصار بذلك فى الإسلام التاريخى والإسلام الجغرافى.. اعتقادا بأن غير المسلمين متآمرون أبداً على الإسلام والمسلمين.. وأن الإسلام متميز ومتفرد بخصائص ذاتية تنفى عنه مشابهة أى حضارة أخرى وأى نظام آخر عرفه الناس قديما أو يعرفونه حديثاً.. وأن أى لقاء بين الإسلام وحضارته وبين عقيدة أو حضارة أخرى لا يمكن إلا أن يكون لقاء عابراً تعقبه مفارقة كاملة ويحكمه اختلاف أساسى.. لأن التصور الإسلامى كله تصور متميز تماماً..

ونحن لا نخفى استدراكنا على كل المقولات المكونة لهذا المنهج.. واعتقادنا بأنها تؤدى إلى انكماش الحضارة الإسلامية، وتراجع شأن المسلمين.. كما أنها تلزم المؤمنين بما لم يلزمهم به الله.. وتملأ حياتهم عسراً وحرجاً وحيرة.. وهى أمور تنافى ثوابت كبرى من ثوابت المنهج الإسلامى السليم الذى تشهد له نصوص قطعية فى كتاب الله وسُّنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- .. كذلك لا نخفى أننا نعتبر اقتحام مصاعب التجديد بعد عصور طويلة من الجمود والانغلاق.. سبيلاً وحيداً لنهضة الأمة وانبعاثها وتجدد دورها فى ريادة المسيرة الإنسانية توجهاً إلى قيم الحق والعدل والرحمة والسلام..

إن العقل المسلم المعاصر يحتاج إلى أن يعيد النظر فى جسارة وثقة فى كل واحدة من المقولات التى تقف فى طريق التجديد، وتحبس الأمة فى إطار التقليد.. لايرده عن ذلك تخويف المخوفين أو لوم اللائمين ( فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ) (التوبة:13).

وتفصيلا لأسباب هذا الاستدراك نقرر ما يلى:

1- أن أحداً من المسلمين، عامتهم وعلمائهم، لا يخطر بباله أن يهون من قدسية النصوص القرآنية، أو نصوص الأحاديث النبوية الصحيحة.. وهم جميعاً مأمورون بالامتثال لما جاءت به تلك النصوص نزولاً عند قوله تعالى: ( وأطيعوا الله ورسوله).. وقوله ( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ) (النور: 51).

ولكن النصوص الجزئية تحتاج إلى تفسير، ولهذا التفسير أصول ومناهج مقررة.. كما أن وراء النصوص الجزئية مقاصد كلية عامة لا يتصور الغفلة عنها أو الذهول عن إدراكها.. وإلا استوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون.. ولوقع جملة الناس فى الحرج والعسر والمشقة بسبب التزامهم ما لا يلزم، ولفاتت مصالح ومنافع شرعها الله.. سبحانه- لهم، وهم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد، وإذا ضاعت المصالح وفاتنا المنافع وضاقت صدور بالعسر والمشقة.. انتفى مقصود الشارع سبحانه من قوله: ) هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ) (الحج: 78).. وقوله ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة: 185).. والاتباع الذى أمرنا به هو اتباع العقلاء المبصرين الذين يرون آيات الله تعالى فى الآفاق وفى أنفسهم.. لا اتباع المقلدين الذين سدوا على أنفسهم وعلى الناس طرقاً كثيرة من طرق الحق والخير والعدل "ظناً منهم منافاتها للشريعة"، ولعمر الحق إنها لم تناف الشريعة، وإنما نفت ما فهمه هؤلاء من الشريعة.. والابتداع الذى نهينا عنه، هو أن يدخل على الدين ما ليس منه، زيادة فيه أو نقصاً منه.. تحريماً للحلال أو تحليلاً للحرام، أو قولاً على الله تعالى بغير علم.

وهناك ابتداع محمود هو ثمرة الاجتهاد فى استقراء الحكم الشرعى من دليله الجزئى فى إطار من مجموع النصوص، فى ظل من الوعى بمقاصدها الكلية، وبالمصالح التى اعتبرها الشارع بالنص عليها.. أو تركها مرسلة يتغياها المجتهدون فى اجتهادهم وتسعى الأمة لتحقيقها، وهى تصوغ أنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. غير خارجة على نص قطعى ولا ساعية لتحقيق مصلحة ألغى الشارع اعتبارها بدليل لا يحتمل التأويل..

2- ويتصل بهذا أوثق الاتصال أن ينتبه المجتهدون والفقهاء وأن يلتفت العقل المسلم "فى كل مكان" إلى مبدأ استصحاب الحال، وأن الأصل براءة الذمة، وأن كل شئ هو حلال وجائز وصحيح حتى يقوم دليل بنقض هذا الأصل بدليل يقينى مثله، يفيد التحريم أو المنع أو البطلان، إعمالا لقاعدة فقهية ومنطقية مؤداها أن اليقين لا يزول بالشك.. لهذا نستطيع أن نقرر فى ثقة أن الأصل فى المطعومات والمشروبات الحل حتى يرد دليل التحريم، لقوله تعالى ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) (النساء: 24).

وقوله : ( قد فَصَّلَ لكم ما حرُّمَ عليكم ) (الأنعام: 119) .. وقوله: (خلق لكم ما فى الأرض جميعا ) (البقرة: 29) .. وأن الأصل فى الأعمال الجواز حتى يرد دليل المنع.. وأن الأصل فى العقود والتصرفات الصحة حتى يرد دليل البطلان.. والقول بغير ذلك افتئات لا دليل عليه من علم ولا كتاب، ومن عواقبه المحققة أن تمتلئ حياة الناس حرجاً، وأن يزول عنها الإحساس بنعمة الله وفضله ورحمته.. وأن يعرض بعضهم - بذلك- عن جملة الشريعة كما قال ابن قيم الجوزية- رحمه الله-: " إن هذا الأصل من أصول الشريعة مدخل أساسى من مداخل التوجه إلى التجديد.. وهو أصل من شأنه جعل ثمرات التجديد قسماً من أقسام الشريعة داخلاً فيها لا قسيما لها خارجا عنها أو منافيا لمقتضاها".

3- إنه قد آن الأوان لإسدال الستار على الثنائية التقليدية التى سممت الحياة الفكرية لملايين المسلمين عبر قرون طويلة، وهى الثنائية التى تقابل بين العقل والنقل.. فينحاز بسببها بعض الناس إلى العقل وإعماله، وينحاز بعض آخر منهم إلى النقل وإنزال حكمه.. كما لو كان أحدهما من عند الله والآخر من عند غيره.. كيف والله سبحانه هو خالق العقل والمنعم به على آدم وذريته، وبه علم آدم الأسماء كلها.. وجعله خليفة فى أرضه، وحامل أمانته التى عرضها الله سبحانه ( على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ) (الأحزاب: 72).. ولا نقول فى هذا إلا أن العقل آية من عند الله.. وأن النقل، قرآناً وسنُة، نعمة ورحمة من عند الله.. وليس يصح فى العقول أن تتناقض آيات الله مع رحمته.

وإذا وقع هذا التناقض فى بعض العقول.. فهو تناقض موهوم مرجعه إلى واحد من أمرين.. أولهما: ألا يكون "المنقول " قطعياً فى وروده أو فى دلالته.. والآخر: ألا يكون " المعقول" يقينياً فى صحته وثبوته وثباته.. ولكن المهم أن يستقر فى "العقل المسلم" أن الإيمان فريضة، وأن العلم- هو الآخر- فريضة.. وأن الله تعالى أنعم علينا بكتابين هما آيتان من آيات رحمته.. كتابه الموحى به إلى نبيه- صلى الله عليه وسلم-.. وكتابه الأكبر المثبوت فى الكون والتاريخ وفى ثنايا الوجود كله.. وإذا كان الإيمان والتصديق هما السبيل إلى استقبال كتاب الله الأول.. فإن البحث والتجربة والنظر وسائر ما يتجلى به العقل على العالم والطبيعة هو السبيل إلى استقبال كتاب الله الأكبر.. المبثوثة آياته فى الآفاق الأنفس.

إن التجديد الذى به خلاص هذه الأمة.. لا أمل فيه ولا رجاء فى تحققه إلا إذا أعيد العقل من جديد إلى عرشه الذى أنزلته عنه مخاوف الخائفين وهواجس المرتابين الذين يحسبون كل صيحة عليهم.

4- إننا جميعاً نعرف فضل الأولين السابقين، بدءاً من صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعشيرته وأهل بيته- رضى الله عنهم وأرضاهم- الذين قال فيهم النبى- صلى الله عليه وسلم- "إن أحدكم لو أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " ومروراً بالتابعين الذين صحبوا أصحابه وأخذوا العلم والعمل عنهم فى أيام كان صوت الوحى فيها لا يزال يملأ الآفاق علماً وهدى ونوراً.. وانتهاء بالأئمة العلماء من المفسرين والمحدثين والمتكلمين والفقهاء.. والأمة كلها تعرف ما قدموه للأجيال من بعدهم من زاد وخير وعلم غزير.. وما أصلوه من قواعد وما فصلوه من فروع وتطبيقات.. ولا يدخر أحدنا وسعاً فى الاستفادة من علمهم والاستئناس بآرائهم.. ولكنا نقف عند هذا المنتهى لا نتجاوزه ولا نعدوه.. ونقول، في من عدا أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هم رجال ونحن رجال.. وليس صحيحاً أبدأ ما يجرى على بعض الألسنة من أن الأول لم يترك للآخر شيئاً.. ذلك أن الأولين كانوا يجتهدون فى إطار واقع لم تعد كثير من عناصره قائمة بيننا.. كما كان اجتهادهم محكوماً بعلوم لم يكن أكثرها قد بلغ من النمو والتطور ما بلغه فى عصرنا.. والفقه والإفتاء فى الشريعة يقوم على معرفة الحق ومعرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر.. فإذا تغير الواقع لزم أن تتغير ثمرة هذا التنزيل الذى يجريه الفقيه أو المشرع الوضعى أو القائم بالإفتاء.. والخلاصة أننا نستقصى- فى كل مسألة- ما قرره السابقون الأولون من علماء المسلمين- ولكنا لا نتوقف عنده، ولا نعطل بسببه ما أمرنا به من الاجتهاد.. وإلا كنا عالة عليهم، متبعين غير مذهبهم السوى فى مواصلة البحث والاجتهاد.

5- وأما رفض كل فكرة وافدة وإغلاق الباب فى وجه كل تبادل ثقافى، فإننا نرى الإسراف فيه تعبيراً واضحاً عن المبالغة فى الخوف.. ونقص الثقة فى قدرة الأمة، وقدرة علمائها على اتخاذ موقف نقدى من تلك الأفكار الوافدة.. نقبل منه كل نافع ونرفض كل ضار أو مخالف لثوابت عقيدتنا وشريعتنا ومصالح أبناء أمتنا.. إن هذا الرفض المطلق الذى يعزل ثقافة المسلمين عن كل ثقافة إنسانية قديمة أو حديثة يقوم على ثلاثة أخطاء لا بد لنا أن نسميها بأسمائها، وأن نستدرك عليها فى غير مجاملة لأحد.

الخطأ الأول تصور الإسلام كما لو كان كياناً ونظاماً مختلفاً عن كل ما عداه اختلافاً مطلقاً.. وينسى أصحاب هذا التصور أن الإسلام هو دين الأنبياء جميعاً، وأن الحنفية كانت دين إبراهيم عليه السلام وأنه سبحانه وتعالى شرع لنا من الشريعة ( ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (الشورى: 13).

وينسى أصحاب هذا التصور كذلك أن النبى- صلى الله عليه وسلم- هو القائل إن: "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها" وأنه قال صلى الله عليه وسلم: شهد فى الجاهلية حلفاً كريماً هو حلف الفضول، وأنه قال فيه، لقد شهدت فى دار ابن جدعان حلفاً ما أحب أن لى به حمر النعم لم ولو دعيت به فى الإسلام لأجبت ".

الخطأ الثانى: تصور إمكان العزلة وتوهم أنها مسلك يحتاج إليه المسلمون، وهذا خطأ مركب.. فالعزلة لم تعد ممكنة بعد الثورات العلمية والصناعية التى أدت إلى سقوط حواجز الزمان والمكان.. ولم يعد لطلاب العزلة سبيل- اليوم- لممارستها إلا بأن يقطعوا عن أنفسهم شرايين الحياة، وهواء التنفس، ونسمات الحياة الاجتماعية التى فطر الناس عليها.. ثم إن المسلمين لا يحتاجون اليوم إلى العزلة، لأن حضارة الإسلام قد ولدت ونمتا وشبت عن الطوق وأفاءت على الإنسانية عبر التاريخ خيراً كثيرا وعلماً نافعاً وقيماً صالحة، والتعلل بأن الحضارة عند مولدها تحتاج إلى حماية وحضانة حتى تنمو وتشبا ويشتد عودها يتجاهل حقيقة جوهرية مؤداها أن الحضارة تولد مرة واحدة ولا يتجدد مولدها مع تعاقب المد والجزر فى حياتها.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك