في كل صيف، يلاحظ العديد من الناس أن حرارة منازلهم تفوق حرارة الشارع، وفي الشتاء تصبح هذه البيوت أكثر برودة من الخارج. ورغم اعتمادنا المتزايد على أجهزة التبريد والتدفئة، يبقى الشعور بعدم الراحة. فهل يعود السبب إلى تغير المناخ وحده، أم أن المشكلة تبدأ من طريقة تصميم وبناء بيوتنا؟
- الخامات الحديثة.. صديقة للتكلفة فقط
أوضحت آية زكريا، استشاري الهندسة المعمارية، أن جذور المشكلة تعود إلى المواد المستخدمة حاليًا في البناء، مثل الطوب الأسمنتي، والهياكل الخرسانية، والواجهات الزجاجية، وهي خامات لا تتفاعل بشكل فعّال مع المناخ المحلي، كما أنها غير صديقة للبيئة. وأشارت إلى أن الزجاج، على وجه الخصوص، يعمل على امتصاص الحرارة وتخزينها داخل الفراغات المعمارية، مما يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة داخل المنزل خلال النهار، واستمرار الشعور بالحرارة حتى في فترات الليل، نظرًا لصعوبة تسرّبها إلى الخارج.
كما لفتت إلى أن غياب التهوية الطبيعية في كثير من الأبنية الحديثة يفاقم هذه الإشكالية، خصوصًا في ظل غياب الإشراف الهندسي السليم، واعتماد العديد من المشروعات على المقاولين فقط دون الرجوع إلى مهندسين مختصين. ونتيجة لذلك لا تُراعى أسس التصميم التي تتيح التخلص من الحرارة الزائدة صيفًا أو الاحتفاظ بالدفء شتاءً، مما ينعكس سلبًا على جودة البيئة الداخلية للمسكن.
غياب الوعي.. والمجتمع يطلب الشقة وليس الجودة
وذكرت أن من أبرز التحديات الراهنة غياب الوعي المعماري والمجتمعي، حيث بات التركيز منصبًا على عدد الوحدات السكنية دون النظر إلى جودتها أو مدى توافقها مع البيئة والمناخ. فغالبية الأفراد لا يعيرون اهتمامًا كافيًا لعوامل مثل التهوية أو التوزيع الجيد للفراغات، بل ينصب اهتمامهم الأساسي على امتلاك وحدة سكنية مناسبة فحسب، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية، بغض النظر عن كفاءتها المعمارية أو البيئية.
كما أوضحت أن الجهات المنفذة، في كثير من الحالات، تسعى إلى إنجاز المشروعات في أسرع وقت ممكن، دون الالتفات إلى الاعتبارات التصميمية المتعلقة بالراحة الحرارية أو كفاءة الطاقة.
وأضافت أن الاعتماد على أجهزة التكييف يُنظر إليه بوصفه حلًا سهلًا وسريعًا للتغلب على مشكلات الحرارة، في حين أن هذه الوسيلة تسهم فعليًا في تفاقم المشكلة، من خلال زيادة استهلاك الكهرباء، ورفع درجات الحرارة العامة، سواء داخل المنزل أو خارجه.
نقص المقررات الجامعية وغياب الأكواد الإلزامية
كما أشارت إلى أن من أبرز التحديات التي تواجه المعماريين في مصر فيما يتعلق بالتصميم البيئي تبدأ من مرحلة التعليم نفسها، فالمقررات الجامعية لا تمنح هذا الجانب الاهتمام الكافي.
كما أن غياب أكواد إلزامية للتصميم المناخي يُعد من العوائق الأساسية، فحتى إن كان هناك وعي فردي أو تخصص أكاديمي، إلا أن السوق لا يدعم هذا التوجه، ولا توجد معايير تلزم المصممين والمطورين بمراعاة الاستدامة، وأيضًا ضعف الوعي لدى المستخدمين أنفسهم، فغالبًا ما تكون قرارات الشراء مبنية على الشكل الخارجي أو التشطيبات، دون الانتباه لعوامل مثل التهوية أو العزل أو توجيه المبنى، إلى جانب الاعتقاد الخاطئ بأن هذا النوع من التصميم أكثر كلفة، رغم أنه على المدى الطويل يوفر الطاقة ويحسن جودة الحياة.
- ارتفاع الأسقف وسمك الجدران.. وسائل عزل منسية
وتابعت حديثها موضحة أن فكرة مراعاة المناخ ليست اختراعًا جديدًا، فمن أبرز وسائل تحقيق الراحة الحرارية في العمارة التقليدية كانت الأسقف المرتفعة، التي تتيح للهواء الساخن الارتفاع نحو الأعلى، مما يساعد في بقاء الهواء البارد في مستوى أقل، ويخفف من الشعور بالحرارة داخل الفراغات السكنية.
أما في الأبنية الحديثة، فقد أصبحت الأسقف منخفضة نسبيًا، مما يؤدي إلى تمركز الهواء الساخن في مستوى الاستخدام اليومي، ويزيد من الإحساس بالحرارة داخل الغرف.
وأضافت أن الجدران السميكة، التي كانت تُستخدم قديمًا لحمل الأسقف، كانت تؤدي دورًا مهمًا في العزل الحراري، حيث ساعدت على تقليل انتقال الحرارة صيفًا، وحفظ الدفء شتاءً، وهو ما جعل البيوت أكثر اعتدالًا وراحة طوال العام، دون الحاجة إلى وسائل تبريد أو تدفئة صناعية.
التظليل الطبيعي.. والمسافات المدروسة بين المباني
كما تطرقت إلى إحدى المميزات البارزة في تخطيط الأحياء قديمًا، وهي المسافات المدروسة بين الأبنية، وهو الأمر الذي كان يوفر تظليلًا طبيعيًا للبيوت، ويقلل من التعرض المباشر لأشعة الشمس، مما يساهم في خفض درجات الحرارة داخل الفراغات السكنية.
أما في التخطيط العمراني الآن، فأوضحت أن المباني تُقام غالبًا على مسافات غير مدروسة، ما يسمح بتعرض الواجهات للشمس طوال ساعات النهار، في ظل غياب عناصر طبيعية كالأشجار والظلال، مما يزيد من امتصاص الحرارة ورفع درجة حرارة البيئة المحيطة.
وأكدت م. آية أن تحقيق تصميم معماري فعال لا يستدعي بالضرورة تكلفة إضافية، بل يتطلب وعيًا هندسيًا بكيفية توجيه المباني وتوزيع الكتل بشكل يسمح بتوفير التظليل الطبيعي، مما يقلل من الاعتماد على أجهزة التكييف ويعزز من كفاءة الطاقة داخل المباني.
- العمارة القديمة كانت تفهم المناخ
من جانبها، ذكرت د. عبير مراد، الحاصلة على دكتوراه من كلية الفنون التطبيقية، في تصريحات لـ"الشروق"، أن العمارة القديمة، وبخاصة الإسلامية، كانت من أكثر الأنماط المعمارية وعيًا بالمناخ والبيئة والثقافة المحلية.
وأوضحت أن التصميمات قديمًا كانت تركز على تقليل التعرض لأشعة الشمس المباشرة، من خلال الانكسارات في الجدران، وتوجيه المباني حسب حركة الشمس، وكذلك استخدام مظلات ومشربيات لتظليل الفتحات وتقليل الحرارة. كما أن المباني كانت تُبنى من خامات طبيعية مثل الطين والحجر، وهي خامات تعزل الحرارة بعكس الخرسانة.
- الفناء والمشربية.. عبقرية وظيفية وجمالية
كما لفتت د. عبير إلى أن حتى العناصر الزخرفية كان لها وظائف أخرى، فالمشربية مثلًا كانت أداة مهمة في تلطيف الجو داخل البيت، وتوفير الخصوصية.
كما أشارت إلى وجود عدة دلائل على مراعاة العمارة الإسلامية للمناخ، مثل الأفنية الداخلية المفتوحة، التي كانت تساعد على التهوية الطبيعية، وبناء البيوت مع مراعاة الانتقال الموسمي داخل البيت، بحيث يتم استخدام الطابق الأرضي صيفًا، والعلوي شتاءً، أو الجهة الشمالية في الصيف والجنوبية في الشتاء.
نصيحة لمن يبني بيتًا أو يجدد شقته
واختتمت آية زكريا حديثها للشروق بنصائح بسيطة للأشخاص الذين يخططون للبناء أو تجديد شققهم.
فنصحت من يبني بيتًا أن يراعي التهوية الطبيعية، وتوجيه الغرف، واستخدام خامات عازلة، وألا يضع الواجهات كلها من الزجاج، أما من يُجدد شقة قائمة بالفعل، فيمكنه على الأقل استخدام خامات عازلة، والعودة لاستخدام الشبابيك الخشبية بدلًا من الألمنيوم أو الزجاج فقط.
وفي السياق نفسه، دعت المطورين العقاريين إلى تبني مفاهيم العمارة البيئية ضمن مشروعاتهم، مؤكدة أن التصميم الواعي بالمناخ لا يتعارض مع الجمال أو الحداثة.
ولفتت إلى وجود محاولات في بعض الدول العربية لاستلهام عناصر معمارية بيئية من العمارة التقليدية، وإن كانت بعض هذه المشاريع لا تزال تعتمد على حلول تجميلية فقط دون تحقيق التكامل الكامل مع البيئة المحيطة.