في 30 أكتوبر 1956 تقدمت مصر بشكوى إلى مجلس الأمن الدولى تشير إلى العدوان الإسرائيلى، وما أعقبه من إنذار بريطانى فرنسى ، وتقدمت الولايات المتحدة الأمريكية بمشروع قرار يدعو إلى وقف القتال فورا بين مصر وإسرائيل وانسحاب الأخيرة إلى خط الهدنة، ومطالبة جميع أعضاء الأمم المتحدة بالامتناع عن استخدام القوة أو التهديد بها فى منطقة النزاع، وتجنب تقديم أى مساعدات لإسرائيل ما لم تمتثل للقرار .
فى اليوم التالى قدم الاتحاد السوفيتى مشروع قرار آخر لمجلس الأمن يتطابق والمشروع الأمريكى ، لكن بريطانيا وفرنسا استخدمتا حق الاعتراض ( الفيتو ) لإفشال التوصل إلى قرار بل وتقدمت فرنسا بمشروع قرار مضاد يدين مصر لمساعدتها الثورة الجزائرية .
ودفع هذا التطور بداج همرشولد السكرتير العام للأمم المتحدة إلى عرض استقالته من منصبه احتجاجا على التدخل البريطانى الفرنسى السافر ضد مصر ، وألقى بيانا يدين فيه الدولتان وأنهما تسببتا فى ضياع الجهود التى تبذل لوقف إطلاق النار أو لإقرار مبادئ التفاوض حول مشكلة قناة السويس نتيجة توجيه الإنذار، وطالب الدول الأعضاء باحترام ميثاق الأمم المتحدة لكن لم تتم الموافقة على استقالته، وكان ذلك تعبيرا عن التضامن مع مصر ورفض العدوان عليها.
دفعت هذه التطورات بالرئيس جمال عبد الناصر لإعادة تقييم الموقف، وكان قراره هو رفض إتاحة الفرصة لهذه القوى لتحقيق أهدافها بأية صورة، والحرص على استمرار الثورة مهما كلف الأمر ، وكانت حسابات القوة التى يرتكز عليها تشمل؛ القوات المسلحة المصرية وقدرتها على الصمود فى مواجهة العمليات المنتظرة ، والجبهة الداخلية وتماسكها إلى جانب الدعم العربى الواسع، وخاصة من جانب القوى الوطنية الشعبية والحاكمة فى كل من سوريا ولبنان والأردن والسعودية .
عندما بدأت العمليات أجرى جمال عبد الناصر تقييمه السريع للموقف العسكرى، وخرج بنتيجة سلبية؛ حيث أدرك أن القوات المصرية لا يمكنها مجابهة العدوان ووقفه، فانتقل إلى بديل آخر هو المقاومة الشعبية بأبعادها المسلحة والإعلامية، وعمل على أن تمتد أيضا إلى صعيد مصر كله فى شكل مظاهرات واحتجاجات، ومن هنا جرى التفكير فى توزيع السلاح على الشعب المصرى باعتبار أنه فى حالة وقوع هزيمة عسكرية ودخول قوات الاحتلال إلى القاهرة فيجب أن تدفع ثمنا غاليا .
بدأ الرئيس فى اتخاذ سلسلة من القرارات الهامة :
جاء أولها من منطلق حساباته العسكرية لأهداف العدوان، والتى أدرك من خلالها أن القوات المعتدية تعمل على تطويق الجيش المصرى فى سيناء عملا على إبادته ، وكان أسلوب القيادة العسكرية فى إدارة المعركة يساعد على ذلك برغبتها فى تحقيق انتصار سريع، مما دفعها إلى تحريك قوات كبيرة إلى سيناء، وجعلها هدفا سهلا للغارات الجوية وأوقع فى صفوفها خسائر كبيرة ، ومن ثم فقد تدخل عبد الناصر وأصدر قراره بسحب القوات المسلحة المصرية من سيناء إلى غرب القناة؛ تفاديا لمزيد من الخسائر التى ستنجم حتما عن وقوعها بين حصار القوات الإسرائيلية من الشرق والقوات البريطانية والفرنسية التى أسقطت جوا فى منطقة قناة السويس غربا، وكان قرارا عسكريا ناجحا بكل المقاييس ساعد على حماية الجيش المصرى وإفشال أهداف القوى المعتدية .
كان القرار الثانى هو تصعيد المقاومة الشعبية؛ ففى أول يوم للعمليات العسكرية البريطانية الفرنسية المشتركة ، أصدر تعليمات بفتح كل مخازن الأسلحة والذخيرة الموجودة فى القاهرة، وتم شحنها فى مئات اللوارى التى انتشرت فى أحياء القاهرة وبعض المحافظات القريبة مثل القليوبية والغربية والشرقية والجيزة . . الخ .
كما أصدر الرئيس جمال عبد الناصر توجيهات بإعداد مقر احتياطى لرئاسة الجمهورية فى أسيوط؛ بحيث يتم الانتقال إليه فى حالة نجاح العدوان باحتلال الدلتا كما كانت تنص على ذلك الخطة "روديو "، والتى سبق أن حصلنا عليها من أرشيف سرى خاص بداخل مبنى الكنيسة الإنجليزية فى قصر النيل فى نهاية 1954، وكانت ترتكز على إعادة احتلال القوات البريطانية للجمهورية عندما تقتضى الضرورة ذلك .
كما أصدر الرئيس عبد الناصر توجيهاته بتعزيز التسليح والتحصينات فى باقى المحافظات، وكانت كلمة السر لعملية توزيع السلاح هى "حنحارب" .. شمل توزيع السلاح جميع أفراد الشعب مهما اختلفت مشاربهم، ولم يسأل أى فرد عن هويته أو انتمائه السياسى أو العقائدى عند تسليمه السلاح، وكان يصحب عملية التسليح فقط التوعية بتعليمات الأمان فى التعامل مع السلاح، وتم بالفعل توزيع ما يقرب من مليونى قطعة سلاح.
فى نفس الوقت شارك متطوعين من كافة شرائح المجتمع من ضباط وجنود جيش إلى ضباط وجنود من الشرطة إلى المتطوعين المدنيين منهم المحامين والأطباء والمهندسين ورجال الدين الإسلامى والمسيحى والشباب من عناصر الفتوة بنين وبنات وطلبة الجامعات والمعاهد والمدارس الثانوية والعمال والفلاحين، كانت الروح الوطنية تشكل نسيجا بديعا يجمع كل هؤلاء.
وأود أن أشير باعتزاز وفخر إلى أنه بعد أن هدأت الأمور، وتم جلاء القوات البريطانية والفرنسية أمكن جمع كل الأسلحة بالكامل دون أن ينقص منها قطعة واحدة اللهم إلا الأسلحة التى استخدمت داخل بور سعيد نفسها، وهذه أيضا لم يفقد منها إلا القليل جدا.
سامي شرف أحد مؤسسي المخابرات العامة المصرية، وسكرتير الرئيس عبد الناصر الشخصي للمعلومات، ووزيرشؤون رئاسة الجمهورية .
اقرأ أيضا:
سامي شرف يكتب لـ«الشروق»: كواليس العدوان الثلاثي (1- 4)
سامي شرف يكتب لـ«الشروق» عن أيام العدوان الثلاثي علي مصر (2 - 4)