الثقافة الرفيعة فى الدولة العربية - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:28 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الثقافة الرفيعة فى الدولة العربية

نشر فى : الخميس 1 يناير 2015 - 8:10 ص | آخر تحديث : الخميس 1 يناير 2015 - 8:10 ص

تحدث الكثيرون مرارا عن سوء استعمال فوائض الثروة البترولية والغازية فى أرض العرب، وعلى وجه الخصوص فى دول الخليج العربية. وقد أشار البعض إلى أهمية الاستفادة من تلك الثروات فى بناء تنمية إنسانية مستدامة شاملة. وكان التركيز على الأهمية القصوى لبناء اقتصاد إنتاجى ومعرفى قادر على توليد ثروة دائمة فى المستقبل لتحل محل الثروة البترولية ــ الغازية المؤقتة التى، إن آجلا أو عاجلا، ستصل إلى مرحلة النضوب.

كما ركز البعض على أهمية بناء إنسان المستقبل من خلال التزام أنظمة الحكم بتوفير خدمات رفيعة المستوى فى الصحة والتربية والتعليم والإسكان والخدمات الاجتماعية المتعددة الأشكال والحياة السياسية المدنية الديمقراطية.

لكن، فى اعتقادى، هناك ضرورة لإبراز أكبر ولصوت أعلى لضرورة التزام أنظمة الحكم بتوافُر شتى أنواع التواجد الثقافى الرفيع المستوى، الذاتُى منه والمنتقى من ثقافات الآخرين. ونحن نعنى بالرفيع المستوى ذلك النتاج الثقافى غير السطحى المبتذل وغير العادى العابر، وإنما التعبير الثقافى الذى وراءه جهد هائل ذهنى أو عاطفى أو روحى يرنو لصعود وتقوية وتعميق النُبل فى إنسانية الإنسان.

•••

الانفتاح على الثقافة الرفيعة والاستمتاع بها والتفاعل معها يحتاج إلى تهيئة منذ الصِّغر عن طريق تعليم غير تلقينى مملٍّ مكرَّر منغلق سطحى، وإنما تعليم تفاعلى إبداعى يغنى وينضج ويسمو بذهن ومشاعر وروح الطفل واليافع.

فى المدرسة والجامعة يجب أن يتم التعرف على الموسيقى الكلاسيكية العالمية، من الشرق والغرب والجنوب، وعلى مسارحهما تشاهد التمثيليات الجادة العميقة المبهرة، وفى قاعات النشاطات يستمع إلى الشّعر الجزل المنعش وتشاهد روائع الرَّسم والنّحت ويناقش ما تقوله أحداث الرواية وتعرض براكين وسيول المنجزات العلمية والتكنولوجية الكبرى. مطلوب أن ينبهر الطالب وأن يحلّق فى السموات العلى.

الاهتمام بالثقافة الرفيعة إذن يتطلب إصلاحا جذريا لمكوّنات ووسائل وأشخاص العملية التربوية برمّتها. وهذا سيعنى ألا تسلّم التربية قط إلى كل من هبّ ودبّ سواء فى الوزارات أم فى المدارس والجامعات.

لكن المهمّة الثقافية للدولة لا تقف عند تلك الحدود، فمواطن المستقبل يحتاج أن ينتقل من اتصاله ببدايات الثقافة الرفيعة فى المدرسة والجامعة إلى مرحلة الانغماس فيها ومتابعة تطورات إنتاجاتها بقية عمره. وهذا غير ممكن بالاعتماد فقط على إمكانيات وجهد الفرد نفسه. هنا يأتى دور الدولة فى حمل مسئولياتها الثقافية ذات المستوى الرفيع. أما الثقافة البليدة المسطحة العابرة المتوجهة إلى أحط ما فى الإنسان من فكر ومشاعر وغرائز، من مثل مهرجانات الأغنيات الصاخبة الهابطة أو التمثيليات المستجدية للضحك الاصطناعى، فإنها ليست بحاجة لمساعدات الدولة، إذ إن الأمية والجهل والتخلف والعلاقات العامة العولمية كافية لإيقافها على أرجلها.

•••

الحاجة للدولة ستكون من قبل فرق الموسيقى والغناء والتمثيل الجادة غير القادرة على منافسة السخف والبلادة والبدائية.

ومع ذلك فإسناد مؤسسات الثقافة الرفيعة الجادة سيكون إسنادا لمجموعات صغيرة من الشعب، ممّن يرغبون فى مثل تلك الثقافة. هنا نصل إلى طرح السؤال التالى: هل من طرق لنشر الثقافة الرفيعة لتصبح غاية غالبية كبيرة من المواطنين، يتذوقونها ويعشقونها ويسمون معها؟ جزء من الإجابة عن هذا السؤال سيعتمد على استجابة الدولة لما أود طرحه باختصار شديد فى عمود اليوم.

•••

فى دول العالم المتقدمة يستمع الإنسان لمحطات إذاعية ويشاهد محطات تليفزيونية متخصّصة فى نشر الثقافة الرفيعة المستوى. وهى عادة محطات مسنودة من قبل جهة رسمية فى الدولة. والسؤال هو: ما الذى يمنع دول اليسر العربية من استعمال جزء يسير من فوائض الثروات لإقامة مثل تلك المحطات الإذاعية والتليفزيونية، على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، من أجل احتضان ونشر الثقافة الرفيعة المستوى كجزء من تنمية الإنسان العربى التى تدّعى جميع الأنظمة العربية بأنها فى قلب اهتماماتها؟

فى تلك المحطات تقدُّم الموسيقى الكلاسيكية العربية والعالمية، تقرأ القصص القصيرة والمقالات الفكرية الموجزة، تشاهد المسرحيات غير الهابطة العربية منها والعالمية المترجمة، تناقش وتحلُل الأفكار الإيديولوجية السياسية، تجرى المقابلات مع المفكرين والكتّاب والعلماء العرب، تطرح التوجّهات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الجديدة التى يموج بها العالم السّريع الحركة والتطوّر وتحلّل وتنقد وتقبل أو ترفض، تناقش أطروحات الأديان والمذاهب الفقهية بموضوعية ودون تزمُّت ومن خلال فهم إنسانى واع،... إلخ... من تجلّيات ثقافية لا حصر لها ولا عد. سيقال إن أكثر ذلك مبثوث فى المحطات الوطنية والفضائية العربية. والجواب هو أنه مجزّأ ومتباعد وغير دائم ومحكوم بتوجهات هذا المسؤول أو ذاك.

المطلوب برامج مكثّفة ومتكاملة ومتناغمة مع بعضها البعض، تتوجه إلى مستويات مختلفة من الفكر والروح والمشاعر فى الإنسان العربى لبنائه الثقافى المتدرج نحو السمو فالأسمى والعميق فالأعمق.

هذا يتطلب العديد من المحطات التى تشرف عليها مؤسسات ثقافية مستقلة يقوم على إدارتها مثقفون حقيقيون ملتزمون قادرون على إبعادها عن الزبونية السياسية والفهلوة الفكرية والفنية.

علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات