إبراهيم ناجى.. بعث جديد (1ــ2) - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 6:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إبراهيم ناجى.. بعث جديد (1ــ2)

نشر فى : السبت 1 يناير 2022 - 9:20 م | آخر تحديث : الإثنين 3 يناير 2022 - 1:46 م

(1)
بعض الكتب تملك سحرا مزدوجا، منبعه ثراء الشخصية التى يدور حولها الكتاب، وثراء المنهج المستخدم فى قراءة الشخصية، فكأنه ثراء على ثراء، وكتابة بلا ضفاف، عولجت بعمق وأصالة وابتكار، فلا المنهج قميص من حديد، ولا هو نموذج معد سلفا، وإنما هو بناء مواز مرن، يريد أن يحيط بالتجربة بكل شمولها، غير غافل عن ذات الناقد، ووعيه، وغير ملتفت إلا لحرية تعادل حرية المقروء، وعالمه الواسع المتفرد.
لا أتردد فى القول إن كتاب «إبراهيم ناجى.. زيارة حميمة تأخرت كثيرا» من تأليف الناقدة والمترجمة والباحثة د. سامية محرز، والصادر عن دار الشروق، هو أحد النماذج الرفيعة العابرة للأنواع: فيه قراءة نقدية مدهشة للشاعر والمثقف إبراهيم ناجى، تضعه فى زمنه، دون أن تغفل إعادة اكتشافه فى ضوء مناهج نقدية حديثة، وفيه تحقيق وبحث لآثار مخطوطة تركها ناجى، ووصلت إلى د. سامية باعتباره جدها لأمها، فلم تبخل بهذا الكنز، وإنما أعادت اكتشافه ارتباطا بصاحبه، وبعصره، وبمكانته الأدبية والعلمية.
ولكن الكتاب فوق ذلك، هو رحلة شخصية لاكتشاف الجد والإنسان والأديب معا، بل واكتشاف العائلة بأكملها: الجد والجدة وبناتهما الثلاث، بل واكتشاف أسرة برجوازية مصرية، تعكس ثقافة وحياة اجتماعية متنوعة بين مصر الولايات المتحدة، تغير زمن الأسرة، وتغيرت ظروفها، ومصائر أفرادها، ولكن بقيت الكتابة والقراءة زادها الذى لا يزول، حتى لو احتفظت بها كأوراق صفراء عتيقة، تقاوم الفناء.

(2)
قيمة هذا الكتاب فى معالجته اللامعة للمادة، فقد كان يمكن أن تنشر المخطوطات كما هى، بدون سياق أو تحليل، فلا نستطيع عليها صبرا، ولكن مؤلفة الكتاب استنطقت المخطوط فصار لسانا وسياقا وزمنا وشخصيات حية نابضة وأماكن مستعادة.
قيمة الكتاب الكبرى فى إعادة بعث ناجى حيا من صورة معلقة فى بيت د.سامية، فى إخراج المثقف العظيم من إطاره الذى سجن فيه كذكرى جامدة وغاربة، إنها صورته الشهيرة التى تتوارثها الأسرة، والتى لم تكن تلفت نظر حفيدته، فتمر بها مرورا عابرها، وكأنها لا تراها، والكتاب فى أحد معانيه الرائعة هو تلك المسافة التى ستعبرها د. سامية لكى تكتشف جدها على كل المستويات، لتنتقل صورته لديها من التهميش إلى الصداقة، فكأن الرحلة شخصية وموضوعية معا، تقوم بها د. سامية بكل صفاتها، كحفيدة وكأستاذة للأدب والنقد والترجمة، وكأن نفسا دراميا رفيعا يمثل خيطا يلضم حبات العقد، فينقل الكاتبة من استهجان الشبه بالصورة الصامتة، إلى سعادتها ببعض الشبه مع الجد، وهو ما يترجمه الغلاف البديع، فتصبح عين د. سامية اليسرى امتدادا لجزء من وجه جدها، ويتشابه مظهر الأنف، وشكل الفم، عابرا السنوات والحكايات، ومؤكدا أن القراءة بالعمق، هى التى تعطى الصورة حياتها ومعناها، وأن الراحلين أكثر حياة مما نظن، ولكننا لا نعرف ولا نهتم.
الدراما أيضا تنشأ بسبب تباين وجهات نظر الأجيال عبر الحوار، والفكرة والفكرة المضادة، من جيل الجدة سامية، إلى جيل ابنتها أميرة، أم د. سامية محرز، وصولا إلى جيل د. سامية محرز، ثم جيل نديم ابن د. سامية، إنها فى الواقع أصوات متداخلة ومتحاورة فى إطار نص مركب.
ما وراء تحليل النصوص نقديا، هو تلك اللعبة السردية البارعة التى تجعل من غياب ناجى المتوفى فى مارس 1953، حضورا إنسانيا وطبيا وأدبيا مكتسحا فى الكتاب الصادر فى العام 2021، بل إن النص، الذى أراه أعمق من زيارة للجد من خلال أوراق مخطوطة كتبها، واحتفظت بها ضوحية، ابنة ناجى وخالة د. سامية محرز، وأراه أكبر بكثير من بعث صورة على الحائط، هذا النص الذى يبعث الغائب حاضرا، كتبت فصوله فى عام الكورونا، فى زمن العزلة والموت الذى يخطف الأحباب، فكأن حياة المثقف وآثاره تعزى الخائفين، وتتحدى الموت والفناء، وتثبت من دون قصد أو اتفاق، أن ما يزرعه المثقف لا يبلى ولا ينتهى، وأن سيرته وأدبه وكلماته أطول من عمره، وأن كل ذلك باق وخالد مثلما قال شكسبير فى إحدى سونيتاته التى ترجمها ناجى مخطوطة ضمن أوراقه المتروكة، كان شكسبير يرى أن ذكرى محبوبته أكثر خلودا من المرمر، ومن النصب التذكارية.
هنا بعث مرتبط أصلا بفكرة الكتابة: كتابة الجد والحفيدة، وهى مكافأة تهون معها كل تضحيات ناجى ومعاناته التى تكشف عنها أوراقه، سواء بأزماته العاطفية، أو المرضية، أو العائلية، أو الوظيفية، وهو الإنسان المرهف الحس والعقل، لا مكافأة فى رأيى أهم من أن تبقى كلماته شاهدة وباعثة له، ومؤرخة لجهده التنويرى حتى فى كتبه الرائدة فى طب العائلة، وفى نشر الثقافة الطبية.

(3)
كان الأمر يستحق هذه السعى وذلك العمل الشاق، أما اختلاف رؤية الحفيدة عن رؤية جدها، فهو أثر الزمن واتساع المعرفة وثراء المناهج ليس إلا، ولكن الأصل واحد، وهو سحر الكتابة وأهميتها، والأهم من ذلك قدرتها على البعث الجديد لصاحبها وعصره وتجربته الإنسانية كلها، ومن هنا يحقق الكتاب نجاحات شتى على مستويات مختلفة، وبعد صفحات قليلة لن يشغلنا استخدام تعبير «جدى»، ولا تعبير «ناجى»، لأن كل لفظ يأتى فى موضعه، فلا اكتشاف الجد والإنسان يلغى صوت الناقدة عندما تفند وتفك وتحلل، بل وهى تهدم الأساطير العائلية، ولا تتردد فى إعلان أسرار البيوتات المحجوبة، ولا هذه النظرة النقدية تتجاهل تلك العلاقة الإنسانية، التى تنمو عبر فصول الكتاب العشرة، بين سامية محرز وجدها، بل لعل الكاتبة تكتشف نفسها أيضا عبر اكتشاف الجد والعائلة كلها، وهذه الرؤية المركبة تليق حقا بعصر ما بعد الحداثة، فلا الناقد حجر أصم تحكمه مناهج مغلقة، ولا هو أيضا عاطفة منطلقة لا تعبأ بوعى الزمن، ولا بثقافته، ولا بنظرته النقدية المتشككة والصادمة.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات