عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 7:05 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية

نشر فى : الأربعاء 1 فبراير 2023 - 8:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 1 فبراير 2023 - 8:20 م
بلينكن فى القاهرة يتحدث مع المصريين عن ضرورة إقناع الفلسطينيين بالتوقف عن أى أعمال عسكرية ضد إسرائيل حتى فى حال استمر الإسرائيليون فى قتل الفلسطينيين. المصريون من جانبهم يتمنون على أمريكا أن توقف إسرائيل عن قتل الفلسطينيين وتوفير الحرج عليهم وغيرهم من العرب. خبر على شاشة التلفزيون يؤكد أن نيكولاس بيرنز مدير المخابرات الأمريكية ما يزال فى المنطقة ولكن غير معروف بالدقة مكانه ومن يقابل. أمريكا تؤكد التعاطف الكامل مع إسرائيل باعتبارها، من وجهة نظر واشنطن، الطرف المعتدى عليه، تؤكد أيضا العزم على مد يد العون بشتى أشكاله لها كالعهد بماضى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، وتدين الإرهاب الفلسطينى.
سمعت فى هذه النشرة أو فى نشرة سابقة أن بلينكن أشار إلى موقف أمريكا، لم يقل الثابت، من موضوع الاستيطان. لم يفت قناة التلفزيون أن تذيع الخبر العاجل الصادر للتو من وزير جديد فى الحكومة الإسرائيلية يطالب رئيسها بتنفيذ وعده باستعجال الكنيست لإصدار تشريع يسمح باستيطان واسع جديد على مشارف القدس. فى النشرة أيضا رسائل دعم وتأييد حكومية وبرلمانية أمريكية لإسرائيل. الرسائل لم تتوقف. جاءت أيضا رسائل دعم لإسرائيل وإدانة للفلسطينيين من أوروبا ولا أظن أن أحدا من المحللين العرب المرموقين فوجئ برسائل الأوروبيين الرسمية، فالطاعة التامة لأمريكا هذه الأيام الأخيرة علامة واضحة على حجم ونوع ضغوط أمريكا التى صارت تستخدم حرب أوكرانيا أداة تروض بها القادة الأوروبيين.
هذا التدافع الأمريكى المكثف يشى بالكثير. من هذا الكثير ما يتردد فى بعض أروقة واشنطن عن أن إدارة الرئيس بايدن غير واثقة تماما مما يدبره نتنياهو لها هذه المرة. نذكر ما فعله مع الرئيس باراك أوباما ونائب رئيسها جوزيف بايدن عندما تجاوزهما رئيس وزراء إسرائيل ويدخل مباشرة الكونجرس دخول المنتصر على حكومة البلاد. نذكر ما حدث ليس باعتباره دليلا إضافيا على مكانة إسرائيل فى سياسة أمريكا الخارجية ونفوذها فى السياسة الداخلية، نذكره لأن تصرفات الوزراء الجدد فى حكومة نتنياهو الراهنة ومواقفهم وتصريحاتهم كلها لا بد وأنها تسبب ارتباكا فى واشنطن وبخاصة بين أكثر المسئولين الأمريكيين تأييدا لإسرائيل واعتناقا للصهيونية ومنهم بايدن شخصيا وبعض وزرائه المنتمين للعقيدة اليهودية. فى الوقت نفسه لسنا غافلين، نحن وغيرنا من المتابعين لتطورات السياسة الخارجية الأمريكية عن الدور الذى صارت تؤديه الاستعدادات لانتخابات الرئاسة القادمة فى مجمل الحياة السياسية الأمريكية وبخاصة فى قطاعى السياسة الخارجية والعسكرية.
• • •
الكلمة المفتاح فى حملة دونالد ترامب الماضية وفى إدارة جو بايدن هى عظمة أمريكا، استعادتها أو تجديدها. كل من الرئيسين أدارها بطريقته، إلا أنهما اتفقا على الدافع وراء اختيار شعار استعادة عظمة أمريكا ألا وهو الانحدار المتسارع فى عديد مؤشرات الحياة الأمريكية وفى صدارتها الانقسام الداخلى وفجوة الدخول وانتشار العنف المسلح والتمييز العنصرى وتدهور حال البنية التحتية فى كل أنحاء الدولة وتراجع مكانة أمريكا وهيبتها. إلا أن عاملين أهم لعبا الدور الأساسى فى تشكيل مجمل وروح الخطاب السياسى الأمريكى لسنوات عديدة مرت وربما سوف يلعبانه لسنوات طويلة قادمة، أقصد صعود الصين وانبعاث القومية فى روسيا تحت قيادة فلاديمير بوتين.
اعتمدت الهيمنة الأمريكية فى معظم علاقاتها الخارجية على مبدأ التفوق المطلق فى القوة فى مواجهة الآخرين، وبخاصة فارق القوة بينها وبين أى منافس محتمل. الحديث فى هذا الموضوع يدفع دائما علماء السياسة إلى العودة لقراءة أيقونة الدبلوماسية الأمريكية جورج كينان، السفير الذى بمذكراته الدبلوماسية من موقعه فى موسكو فى نهاية عقد الأربعينيات إلى وزارة خارجيته مهد للحرب الباردة عندما أوصى بضرورة منع روسيا من الاستمرار فى التوسع فى شرق أوروبا وفرض الحصار حولها.
المثير أن لكينان بعد تقاعده توصيات بشأن أوكرانيا وضرورة الحذر فى التعامل معها أو فى شأنها. نذكر من هذه التوصيات ما يتعلق مباشرة بتطور الأحداث خلال الأيام القليلة الماضية وبخاصة ما اعتبرته، أنا شخصيا، أقوى حملة ضغوط مارستها أمريكا على حلفائها منذ حملتها فى أعقاب حرب السويس على كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل لوقف عدوانها على مصر والانسحاب على الفور. هذه المرة مورس الضغط الشديد للغاية على ألمانيا بالخصوص ولكن أيضا على دول أوروبية أخرى لمد أوكرانيا بالدبابات من الطرز الأقوى. لا نخطئ التقدير إذا توقعنا أن تطلب أمريكا من حلفائها فى الخطوة التالية تزويد أوكرانيا بالطائرات والصواريخ. لا أظن أن الرئيس زيلنسكى بادر ذات يوم باتخاذ قرار أو طلب سلاح بعينه أو معونة مادية من الغرب إلا بعد تلقيه تحفيزا من واشنطن. لا أبالغ وبخاصة بعد أن شاهدنا التخطيط المحكم للزيارات التى قام بها زيلنسكى للكونجرس والبرلمان الأوروبى والتوظيف المكثف لأجهزة الإعلام الأمريكى لخدمة حكومة أوكرانيا.
نعرف الآن أن السفير كينان حذر من حشر روسيا فى الزاوية لأن ردها إن وقع الحشر سوف يكون غاية فى العنف. كثيرون استغربوا صدور هذا التحذير من الرجل الذى أوصى فى سن مبكرة بفرض الحصار على روسيا. أنا لم أستغرب التغيير فى أفكار كينان السياسية فالأفكار تنضج أو تتفتت وتعود تتشكل من جديد مع التقدم فى العمر. ثم إنه نبه إلى أن ما يربط روسيا وأوكرانيا أكثر كثيرا مما هو معروف للمراقبين الأجانب وأشد تعقيدا. فالصراع مثلا بين البلدين قديم ومتجذر فى التاريخ باعتبار عامل العقيدة القومية المتطرفة فى الجهتين. بمعنى آخر، نفهم من تنبيهات كينان وقد صار فى مرحلة متقدمة من الخبرة والعمر أن إقدام الولايات المتحدة على تفجير مرحلة جديدة فى الصراع الأوكرانى الروسى واستمرارها فى تزويد أوكرانيا بالدعم ينذر باحتمالات جميعها مرعب. أهم هذه الاحتمالات هو أن يزداد معدل العنف فى الداخل الأمريكى والمؤشرات تؤكد فرص هذا الاحتمال. نأخذ على سبيل المثال ما كتبه كينان محذرا المسئولين الأمريكيين عن تدخلهم فى هذا الصراع. قال ما معناه أن أوكرانيا بالنسبة لروسيا أشبه شىء ممكن للغرب الأوسط الأمريكى بالنسبة للولايات المتحدة، هى سلة حبوبها وغذائها وقاعدتها الصناعية. وبالتالى يمكن تصور رد فعل موسكو إذا تدخلت جهة أجنبية وحاولت إشعال فتيل صراع فى حالة كمون مع أوكرانيا أو فصل الدولتين الواحدة عن الأخرى. لا شك لدينا الآن فى أن نية الدولة العميقة فى الولايات المتحدة بعد تنصيب زيلنسكى رئيسا لأوكرانيا مالت لفكرة تفجير الصراع بين أوكرانيا وروسيا وهى تعلم مسبقا بعواقب هذا التفجير على مذبح الاختلافات الأوروبية ذات الطابع القومى. نعلم مثلا أن بولندا ما تزال تغلى بقومية أقل ما يقال فيها إنها متطرفة كما نعلم أن الصراع فى منطقة البلقان لم يهدأ أواره وما زال يغلى تحت السطح كبركان لا يمل. نعلم أيضا أن القومية الروسية هى التى أعادت إلى روسيا حلم التوسع لضم «روسيات» صغيرة متناثرة فى أنحاء الجوار القريب وبخاصة فى أوكرانيا.
• • •
كابوس رهيب يرفض أن يغيب عن مخيلتى، يوسوس مرددا على مسامعى القول بأن ما يحدث أمامنا الآن لا يخرج عن كونه مجرد رحلة تدريب. روسيا ما هى إلا محطة صغيرة فى رحلة شاقة على طريق طويل الصين محطته النهائية.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي