متى يعلنون وفاة الفساد؟ - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 11:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

متى يعلنون وفاة الفساد؟

نشر فى : الخميس 1 يوليه 2010 - 10:01 ص | آخر تحديث : الخميس 1 يوليه 2010 - 10:02 ص
أصبح المصريون يألفون العيش مع الفساد. صار منذ مدة حقيقة من حقائق حياتهم اليومية. وللأمانة فإن هذا الحكم ينطبق على ما يمكن تسميته بالفساد «المألوف»، فقد اعتاد المصرى على أن ينجز نسبة تقل أو تكثر وفق الظروف من معاملاته اليومية مع الإدارات الحكومية أو ما يشبهها من خلال تقديم مبالغ من المال تتناسب مع أهمية المعاملة والعائد منها وقدر الموظف الذى يتقاضى هذه المبالغ، وما إذا كان يتقاضاها بصفته الفردية أم كجزء من تنظيم «عصابى» أوسع.

واعتاد المصرى كذلك أن يسمع عن عمليات سمسرة واسعة النطاق، أو عن قروض تعطى لأصحاب الحظوة دون ضمانات كافية على النحو الذى يُضيع أموال المصارف التى تتراكم عادة من إيداعات صغار المدخرين ومتوسطيهم، وهكذا. ولذلك تعود المصرى العادى ألا يلتفت كثيرا لتصريحات المسئولين التى تنفى وجود هذا النوع من الفساد أو تعتبره من قبيل الاستثناء، ذلك أنه يعيش وقائعه بنفسه فى كل مرة تضطره الظروف إلى التعامل مع إدارة حكومية فاسدة أو موظف مرتش.

وقد كان المسئولون يدفعون بالإضافة إلى ما سبق بالقول بأن الفساد ظاهرة عالمية، ومن ثم فإن المجتمع المصرى لا يعد استثناء فى هذا الصدد، وهو قول صحيح فى عمومه، لكنه منقوص أو على أحسن الفروض غير دقيق، لأن العبرة على سبيل المثال بنسبة انتشاره وليس بمجرد وجوده، فهل ينتشر الفساد فى مصر أكثر من غيرها من البلدان أم أقل؟ والعبرة كذلك بآليات مواجهته، وهل توجد مثل هذه الآليات ويتم إعمالها فى مواجهة حالات الفساد، أم أنها موجودة لكنها معطلة، أم أنها فى حكم غير الموجودة؟ وهل من شأن تطبيق هذه الآليات أن يأتى بعقوبات سريعة ورادعة للفاسدين أم أن العدالة بطيئة بطء السلحفاة منزوعة الأنياب بحيث لا تأتى إلا بما خف وزنه من العقوبات؟

هكذا لم يعد «الفساد المألوف» يحرك فى المصريين شيئا، فهو حقيقة من حقائق حياتهم اليومية لا حيلة لهم فيها، لكن السنوات الأخيرة وتحديدا مع بدء عمليات الخصخصة ثم تجربة دخول رجال الأعمال إلى مواقع السلطة بدأت تفرز نوعا جديدا من الفساد «غير المألوف» الذى يبدو أصحابه وكأنهم واثقون من أنهم بمنأى عن الحساب والعقاب، ولذلك فهم يأتون بأفعال تعتبر فى حكم اللامعقول، وأن الأسعار التى بيعت بها جزيرة آمون وأرض ميدان التحرير تجعل أى أربعة من المصريين الشرفاء الذى عملوا فى الخليج لبضع سنين قادرين على امتلاك أجمل جزر نهر النيل، وتجعل أى مقاول مصرى شريف بنى عمارة أو اثنتين وحقق منهما ربحا بما يرضى الله يطمح فى أن يمتلك ميدان التحرير بأكمله.

والدليل على ذلك أن يضطر رئيس الجمهورية إلى التدخل بنفسه فى هذه الحالات الصارخة للفساد لإعادة الأمور إلى نصابها كما حدث فى الواقعتين السابقتين لبيع أرض ميدان التحرير، وجزيرة آمون إلى إحدى الشركات التى يفترض أن وزيرا حاليا شريك فيها هو وأقارب له لم يكونوا بعيدين بدورهم عن مواقع السلطة، أو لبيع مساحات شاسعة من أراضى الدولة لشركاتهم بأثمان لا تصدق، وغير ذلك الكثير. وبغض النظر عما يمكن أن يكون هؤلاء قد تحسبوا له بإجراءات قد تنفى عنهم قانونا تهمة الجمع بين الصفة الوزارية وصفة رجال الأعمال، فإن الكل يعرف حقائق العلاقات بين هؤلاء المسئولين وتلك الشركات.
تدخل الرئيس مبارك مشكورا إذا لكى يمنع استمرار هذا العبث، لكن ثمة ملاحظات عديدة على هذا التدخل ينبغى تسجيلها.

الملاحظة الأولى أن هذا التدخل يعنى أن كل آليات مواجهة الفساد قبل المستوى الرئاسى قد عجزت عن وقف هذا العبث بحيث اضطر رئيس الجمهورية إلى التدخل بنفسه، والخطورة هنا أن تصرفا كهذا يمكن أن يصبح تصرفا «فرديا» وليس «مؤسسيا».

صحيح أن مؤسسات ما مسئولة فى الدولة لابد وأن تكون قد قدمت للرئيس معطيات بنى عليها قراره، ولكن القرار النهائى بقى بيد الرئيس وليس بيد إحدى المؤسسات الأدنى منه فى بنية السلطة مما يجعل قرارا كهذا معلقا برقبة فرد وليس «ببنية مؤسسية».

والملاحظة الثانية أن تدخل الرئيس يبدو أقرب إلى منع «غول الفساد» من تجاوز حدوده المألوفة منه إلى مواجهة هذا الفساد ومحاربته، فغول الفساد يمارس نهش لحم الوطن فى حدود متعارف عليها ــ ولا أقول مقبولة ــ غير أن العزة بالإثم تدفعه أحيانا إلى تجاوز هذه الحدود ليأتى بما لا يمكن تصديقه من ممارسات.

هنا يأتى التدخل الرئاسى أقرب إلى دفع «غول الفساد» إلى داخل حدود ملعبه وإغلاق الباب عليه مما يعنى استمرار الأوضاع التى أفضت إلى هذا الفساد غير المألوف.

تتصل بما سبق ملاحظة ثالثة عن ردود أفعال المتهمين بالتورط فى هذه الأعمال الخارقة للمألوف فى مجال الفساد، فالتهمة واضحة الأركان، وصحيحة ــ بمعنى أن تصرفا مشينا قد وقع ــ وأشخاص المتهمين بالتورط فى هذه الأعمال معروفة، وأحدهم يشغل موقعا مهما فى بنية السلطة، ومع ذلك فإن أحدا من قياداته لا يطالبه بتوضيح كاف، ولا هو يبادر إلى ذلك. وحتى لو كان الأمر موضوعا لتحقيق جاد يجريه النائب العام حاليا فإن الملاءمة كانت تقتضى من هذا المسئول أن يتقدم باستقالته منعا لأى شبهة.

وتشير الملاحظة الرابعة إلى أنه يبدو فى السياق السابق واضحا لماذا «يموت» بعض قضايا الفساد قبل أن يجد من يتصدى له على الرغم من خطورته، وعلى سبيل المثال فقد أثير فى سياق عمليات الخصخصة كثير من الاتهامات بحق مسئولين أثروا من عملية «بيع مصر»، ومع أهمية ما قدم من قرائن وشواهد على صحة هذه الاتهامات أو جديتها على الأقل فإن خطوة واحدة فى شأن التحقيق فيما جرى لم تتخذ، ومات بعض من أهم قضايا الفساد.

وثمة ملاحظة خامسة عن آليات مواجهة الفساد فى مصر، فهذه الآليات موجودة بطبيعة الحال ولكنها غير فاعلة، والحكومة والحزب الحاكم يكثران من الحديث عن محاربة الفساد، لكن الأمر كما سبقت الإشارة يبدو معلقا بقرار الرئيس.

وللأمانة فإنه فى بعض حالات الفساد غير المألوف تم إعمال الآليات القانونية لمواجهة هذه الحالات كما فى حالة وزير سابق وجهت له اتهامات خطيرة بشأن التصرف فى أراضى الدولة فى أثناء توليه الوزارة. والتأمل فى هذه الحالة ضرورى للغاية لأنه يبين مدى ضعف الآليات القانونية لمواجهة ظاهرة الفساد، فقد ظلت هذه الاتهامات تتكرر لسنوات أثناء وجود الوزير فى موقع السلطة، وقدم فى سبيل إثباتها عدد من الشواهد والقرائن، لكن كل الأحجار الثقيلة التى ألقيت فى بركة الفساد لم تنجح فى أن تحرك مياهها الراكدة عكس كل قوانين الطبيعة. وشاع بين الناس أن هذا وزير من النوع المحصن يستحيل المساس به، لأنه «صاحب فضل» على «الجميع».

ومرت السنون وخرج الوزير من التشكيل الوزارى، وتنفس الرأى العام الصعداء ولكنه لم يكد يكمل شهيقه حتى سمع بتكريم رفيع من الدولة له، فتأكد الانطباع السابق أكثر من ذى قبل، واحتفظ الرجل بطبيعة الحال بموقعه فى السلطة التشريعية ممثلا لواحدة من أفقر الدوائر الانتخابية فى مصر، مع أنه لم يبل فى موقعه هذا أى بلاء حسن أو غير حسن، إلى أن كان الخطأ القانونى الذى وقعت فيه السلطة بتعيينه بالمخالفة للقانون رئيسا لإحدى الشركات البترولية المهمة ــ على الرغم من أن تخصصه وخبرته الوظيفية لا علاقة لهما بالبترول من قريب أو من بعيد ــ براتب ضخم، وهنا تمكن نفر شجاع من أعضاء السلطة التشريعية المستقلين والمعارضين من إحراج الحكومة إلى أن صدرت فتوى مجلس الدولة ببطلان تعيينه نظرا لعدم جواز تعيين عضو مجلس الشعب فى منصب تنفيذى، وقد بلغ إيمان البعض بأن الرجل «محصن» إلى الحد الذى ذهبوا فيه إلى أن الفتوى لن تنفذ، لكنها نفذت لأن الفساد كان قد خرج عن حدود «المألوف».


جنبا إلى جنب مع ما سبق بدأت تحقيقات النيابة العامة مع الرجل فيما هو موجه إليه من اتهامات، وقد أبدى استخفافا بالغا بها، وذكرَّنا بأنها ليست المرة الأولى التى توجه فيها إليه فيها هذه الاتهامات وتحفظ، لكن التحقيقات كشفت للرأى العام عن عجائب الأمور التى لا يصدقها عقل، ومنها على سبيل المثال أن الرجل لم يكن يملك من أمر نفسه شيئا، وأن جميع قرارات التصرف فى أراضى الدولة كانت بيد مسئولين صغار، وأن هذا الوزير مهيض الجناح لم تكن له ناقة ولا جمل فيما كان يجرى، ثم أدمى الرجل قلوبنا بالحديث عن الظلم الذى تعرض له «أطفاله» عندما تقدموا كأى مواطنين مصريين عاديين بطلبات لتملك قطع من الأرض فإذا بصاحب القرار المسئول فى الوزارة وقد تحجر قلبه يستدعيهم وينذرهم بأن عليهم أن يقبلوا بشراء ضعف ما طالبوا به من مساحة وإلا فإنه سيعتبر طلبهم لاغيا، ولم يجد هؤلاء الأطفال المساكين بدا من الانصياع للرجل الذى تجرد من كل رحمة.

ولم يفت الوزير السابق أن يلجأ فى دفاعه عن نفسه أيضا إلى مبدأ «شرع ما قبلنا» مشيرا إلى أن ما فعله كان يحدث فى عهد الوزير الأسبق حسب الله الكفراوى ــ وهو واحد من أشرف من أنجبتهم مصر وأكفأهم ــ فاكتفى الرجل بأن أصدر بيانا فى سطور قليلة يوضح فيه الأمر ويقول بحسم للفاسدين: من كان لديه أمر آخر فليتقدم ببلاغ إلى النائب العام. فخرست كل الألسنة.

تابع الرأى العام كل ما سبق بأمل فى محاسبة الفساد خاصة وأن ثقته فى نائبه العام مطلقة، لكن العدالة تبدو بطيئة بما يجعل صدور المصريين ضيقة، ويثير لديهم الهواجس مجددا من أن الرجل يمكن أن يكون فوق الحساب، وإن كان المرء يمنى النفس بأن البطء يعود إلى الجدية وليس إلى أى شىء آخر.

ثمة ملاحظة أخيرة قد تكون أهم هذه الملاحظات، وتتعلق بأن وقائع الفساد غير المألوف قد انبثقت من مناخ معين، ولذلك فإنه جنبا إلى جنب مع الأمل فى حساب المسئولين عن تلك الوقائع يجب أن تكون هناك «مراجعة» لهذا المناخ إن كنا حقا نريد أن نحاصر الفساد ونقلل منه أو على الأقل نعيده إلى حدوده المألوفة، وإذا كان المسئولون قد أعلنوا مؤخرا التوقف عن عمليات الخصخصة التى خلفت وراءها من أفعال الفساد ما لم تتم بشأنه أى محاسبة حتى الآن فإن تجربة دخول رجال الأعمال إلى مواقع السلطة تحتاج دون شك إلى مراجعة حقيقية على ضوء ما أضافته من سوءات إلى الواقع المصرى، وهذه المراجعة بالذات مسئولية رئيس الجمهورية لأنه المسئول دستوريا عن تشكيل الوزارة، وما لم تحدث هذه المراجعة، وما لم يوضع حد لهذه التجربة المسيئة، وما لم يعد رجال الأعمال إلى مواقعهم كمجموعة مصلحة ذات تأثير فى عملية صنع القرار وليس كمسئولين يوجهون قرارات الدولة لصالح أعمالهم فإن اليوم الذى نعلن فيه وفاة الفساد لن يجىء، بل الأغلب أننا نحن الذين سنموت ويحيا الفساد.
أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية