مقهى ورصيف - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 11:43 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مقهى ورصيف

نشر فى : السبت 1 أغسطس 2015 - 7:15 ص | آخر تحديث : السبت 1 أغسطس 2015 - 7:15 ص

صبيحة يوم العيد ظهر مقهى لم يكن موجودا من قبل فى مساحة شديدة الضيق. اعتلى رصيفا لا يكفى سوى لمرور شخص منفرد، تراصت المقاعد البلاستيكية متلاصقة، وعليها تناوب أشخاصٌ كثيرون. بدا أن المقهى الوليد قد أٌقيم خصيصا لاستقبال ما يمكنه أن يسع من أفواج المحتفلين. لم يكن الوحيد الذى تخلق بين ليلة وضحاها، فثمة مقاه أخرى ظهرت هنا وهناك؛ لتحتل أى جزء خال من أى رصيف لم تسط عليه العربات بعد. أى جزء ربما لا يزيد اتساعه عن بضع عشرات من السنتيمترات، يسمح بالكاد بوضع كراس مصطفة ومحاذية أحدها للآخر، ومنضدة لا تكاد ترى لفرط صغرها، يصبح مقهى. ربما لا يكون هناك حتى رصيف، فكل فراغ يصلح؛ مررت بمقهى فى أحد أحياء الاسكندرية القديمة، أقيم فى حضن مدرسة مغلقة تزدان جدرانها برسومات أطفال، وحكم ونصائح وأمثال، وقد بدت فى حال من الغربة وسط نداءات البشر المطالبة بأكواب الشاى بالنعناع وتغيير الحجر.

***

فى بعض الأحوال، ورغم حضور مفردات المقهى الضرورية جميعها واكتمال المشهد بشرا وجمادا، لا يمكن اكتشاف المكان الذى يأتى منه النادل وإليه يعود؛ محملا بحصيلة طلبات لا تنقطع، تتراص الأكواب وتحتل الشيشة مواضعها، بينما النادل الغامض يستمر فى الذهاب والإياب من حيث لا يعرف ــ ولا يهتم أن يعرف ــ أحدٌ. مررت بعقار نصف متهدم، استقرت إلى جانبه المناضد والكراسى المألوفة، مشغولة عن آخرها، لا تعلوها لافتة، ولا تجاورها جدران مقهى، ولا يظهر لها صاحب كأنما جاءت من عدم؛ لا يظهر لها صاحب إلا مع اعتزام أحد الزبائن الرحيل وجلوس شخص جديد، حينها يخف النادل مسرعا، ويمارس طقوسه المعتادة.
لا تكتفى المقاهى بالظهور فى الشوارع الجانبية بل تقتحم الرئيسة أيضا، وفى كثير من المناطق تجترئ على براح الشارع ذاته فتترك الرصيف وتستقر على الإسفلت، ولا تفسح للعربات سوى منفذ صغير تعبر منه على استحياء. أحيانا ما لا يتمكن الزبائن من رؤية بعضهم البعض وسط عوادم السيارات التى تحيط بهم من كل جانب، ينسدل عليهم ستارٌ كثيف من الضباب، تدعمه الأدخنة المنطلقة من أفواههم وأنوفهم دون توقف.

***

يمتزج الناس بالسيارات فى مشهد فريد بكثير من أحياء القاهرة، على تباين مستوياتها الاجتماعية والاقتصادية. الجالس فى العربة يخاطب الجالس بجواره على المقهى، وقد تنشأ بينهما صداقة يتيحها الوقت الممتد بسبب تكدس الطريق، وربما يطلب سكان العربة مشروبا من نادل المقهى، أو كوب ماء من الجار الجديد، فى انتظار انفراج الزحام. أذكر أن منطقة الكوربة بحى مصر الجديدة لم تكن تحفل بهذا القدر من مقاهى الرصيف إلى وقت قريب، وقد تحولت فى السنوات الأخيرة إلى مقهى كبير.

تعرف بلدان كثيرة؛ فقيرة وغنية، متقدمة ومتأخرة، مقاهى الأرصفة، ولا يأتى ذكرها إلا وكانت المقاهى التى يمتلئ بها شارع الشانزليزيه فى باريس محل حديث وإعجاب، تلك التى تختلف بعض الشىء عما صرنا نألفه فى طرقاتنا، حيث الرصيف يضم زبائن المقهى مثلما يتسع للسائرين، دون أن يجور طرفٌ على حق الآخر فى براح مناسب، لا يخترق فيه فضاءه الخاص، ولا يتعرض الجسد فى نطاقه إلى حصار بغيض.

***

على رصيف الكورنيش مقاه فخمة، مكتظة بالناس، تملك قوائم طويلة يحار المرء أمام ما يرغب فى طلبه منها، بينما تجاورها أماكنٌ أخرى أكثر تواضعا لا تقدم إلا القليل، والنادل فيها ليس بنادل ولا حتى المقهى بمقهى، رأسمال صاحبها قد لا يتجاوز منضدتين ومقاعد أربعة، وبضعة أكواب زجاجية يعد فيها المشروبات لزبائنه، مستخدما السور الحجرى الذى يفصله عن رمال البحر. عبرت أمام هذه وتلك، واخترت الأخيرة. توسمت أن زبائنها المعدودين، المحاطين برائحة اليود وشىء من الفراغ، أكثر سعادة من هؤلاء الجالسين فوق رءوس بعضهم البعض يستنشقون الصخب والعرق والتبغ، وإن ارتسمت على وجوههم ابتسامات واسعة.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات