نقاب الشاطئ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 4:02 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نقاب الشاطئ

نشر فى : السبت 2 مارس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 2 مارس 2013 - 8:00 ص

رحلة قصيرة إلى الإسكندرية، أنهيت فيها ما أنهيت من عمل، ثم فكرت بدافع من دفء شمس الشتاء، فى التمدد على رمال الشاطئ ولو لدقائق. حين وصلت إلى المكان ترددت قليلا، شعرت إننى لن أتمكن من التمتع بالوحدة فى المكان، رغم أنه كان شبه خال إذ ما قورن بحاله صيفا. هاجمنى هاجس سخيف مؤداه أن المسئول عن الشاطئ الذى لم يبد عليه الترحيب بوجودى منذ اللحظة الأولى سوف يتلو على بجهامته بعض التعليمات، ويطلب منى الالتزام بالجلوس على الكرسى البلاستيك السخيف، حيث التمدد على الرمال ممنوع. واكب هذا الهاجس وجود عائلة كاملة، بدت مستقرة من قبل وصولى، تضع نساءها كلهن النقاب، بينما الرجال يطلقون اللحى، ويرتدون جلابيبا قصيرة، وبنطلونات أرجلها مثنية ومرفوعة حتى منتصف السيقان تقريبا.

 

•••

 

قررت أن أتمدد بالفعل حتى أكسر مخاوفى، فعلت ولم يعترض أحد على نومى فوق الرمال، مما حرضنى على التفكير فى خطوة أبعد وأكثر تهورا، فكرت فيما سوف يكون عليه الحال إن جاءت أخرى، وقررت أن تسبح بملابس البحر المتعارف عليها. وجدتنى أتساءل عن تصرف العائلة المنتقبة فى هذه الحالة، ترى أيغادر أفرادها الشاطئ اعتراضا على زى السابحة؟ أ يعتبرها أحدهم فاسدة أو مفسدة، فيتشاور مع الآخرين، وقد يقررون نصحها أو تعنيفها أو حتى تغيير ما يرونه منها منكرا بأيديهم؟ أيكتفون برميها بنظرات الازدراء والتحقير؟ وقبل كل تلك التخيلات والتساؤلات التى راودتنى، هل تجرؤ امرأة أيا ما كانت قوتها النفسية وشجاعتها، على تحدى هذا المحظور السارى فى جو الشاطئ، بغير أن يكون مكتوبا؟

 

رحت أتحفز شيئا فشىء، وأغضب دون أن يحدث شىء، وأراكم فكرة فوق فكرة، ورد فعل أمام فعل، وأنسج حوارا ثم شجارا فى مخيلتى، وأنا مازلت ممددة فى نفس المكان؛ لم أغادره ولم أحد برأسى إلى جهة مخالفة للبحر. بعد قليل، استقبل الشاطئ عائلة جديدة؛ صرنا شمسيات ثلاث، ضمت آخرها طفلة صغيرة فى صحبة سيدتين منتقبتين أيضا.

 

قامت إحدى السيدات فى تؤدة واقتربت من خط البحر.. لامست الأمواج المنكسرة أصابع قدميها ففزت متراجعة إلى الخلف. بدت من حركة جسدها الرغبة فى معاودة الكرة، راحت تتقدم ثم تتراجع، ابتل ذيل ثوبها الطويل جدا، الذى قبضت عليه لترفعه بيدها سنتيمترات قليلة. جال بخاطرى ما قد ينتابها من جزل إذ ما تحررت من هذا الذيل الطويل ولو للحظات، وخاضت فى البحر لتختبر ملمس المياه وخفة الجسد داخلها، لكن السيدة تراجعت نهائيا عن محاولاتها، وجلست مكانها مرة أخرى فى سكون واستسلام، وكأنها رضت بما أصابت من سعادة قصيرة.

 

•••

 

تعاقبت فى ذاكرتى مشاهد متنوعة لامرأة منتقبة فى مطعم، ترفع الساتر الأسود الذى اتخذته على وجهها بين الفينة والفينة، ثم تُدخِلَ يدها المتعثرة من تحته لتتناول ملعقة الحساء، ثم قطع اللحم، ثم مشهد آخر لامرأة منتقبة تقود سياراتها ولا تكاد ترى أمامها لفرط ما تدلى نقابها من أعلى ليخفى الحاجبين، وارتفع من أسفل ليلامس الجفنين، مرت بذهنى أيضا امرأة ثالثة، زميلة عمل، قررت أخيرا أن تتخفف من تشددها بعض الشىء وأن تتدلل، وتستبدل باللون الأسود القاتم الذى يحجبها عنا كاملة، بلون آخر بنى، لم يلبث بعد فترة أن صار بنفسجيا رائقا، تضحك بصوت عال كلما نالها تعليق عليه.

 

•••

 

قارن الناس مجموعات البلاك بلوك التى ظهرت متخفية خلف قناع وجه أسود، بطوائف النساء اللاتى ترتدين النقاب، كلتاهما ملثمة، وكلتاهما تهدف فى تخفيها إلى اتقاء شر ما. يختبئ أعضاء البلاك بلوك اتقاء لبطش السلطة، وتختبئ النساء اتقاء لارتكاب ذنب الفتنة، وخلاصا من جسد ترينه حراما. تنتقب النساء هربا من حريتهن، ويتلثم أعضاء البلاك بلوك سعيا وراء حريتهم. يبقى الاختباء رمز، وسيلة فاعلة تجمعهما فى المظهر، وتفرق بينهما فى المقصد.

 

•••

 

ظهرت شمسية رابعة بجانبى، رجل وامرأة لا تغطى شعرها، وطفل صغير تركهما يديران حديثا طويلا، ومضى إلى حال سبيله يفتش عن القواقع والأصداف. قلت فى نفسى أننا صرنا مجموعتين شبه متكافئتين، شمسيتان سافرتان وأخرتان محتجبتان. ضبطت نفسى متلبسة، وأدركت للمرة الثانية أننى قد صنعت داخلى حاجزا، أو أنه وُجِدَ تلقائيا، يقسم الشاطئ إلى نحن وهم. الرمال واحدة والبحر واحد، أكواب الشاى التى دار بها الصبى علينا واحدة، حتى هتافاتنا فى بعض المظاهرات كانت واحدة، يتسع الشاطئ للكل، لكن الحاجز المادى، المقام على الوجوه يستدعى حاجزا نفسيا يصعب التخلص منه. كان التخفى دائما ولا يزال، سدا يحول بين الناس وبين تواصل أكثر قربا.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات