ما إن تخطيت لجان التفتيش بالميدان حتى علا أذان المغرب فتوجهت لمسجد عمر مكرم كى أصلى. وعندما تراصت الصفوف وجدت نفسى وكما أكره دوما بجانب سيدة تتمتم بالتلاوة بصوت مرتفع أثناء الصلاة. فناضلت حتى أركز فى تلاوتى دون ان أتأثر بما تتلو، فنجحت تماما فى صم أذنى عن صوتها المرتفع حتى بلغنا التشهد فى الركعة الأخيرة قبل التسليم. حينها سمعت ما تتمتم به، فإذا بها تقرأ الفاتحة وسورة الإخلاص، تسمعت مجددا لأتأكد انها ليست بوارد السهو، فوجدتها تعيدها مرارا حتى أنهى الإمام الصلاة. حينها تملكنى الأسى الشديد، إذ كيف بامرأة قد قاربت الخمسين، ولا تعلم أننا لابد ان نتلو التشهد فى الركعة الأخيرة وليست سورتى الفاتحة والإخلاص؟؟ فدرس تعليم الصلاة يتكرر مرارا فى السنوات الأولى للتعليم الأساسى، فإن كانت قد تسربت من التعليم فكيف فاتها تعلم الصلاة ونحن نعيش فى بلد ينتشر فيه الدعاة بكثافة على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم.
لست بوارد التنظير عن أولويات الخطاب الإسلامى فى زمن الثورات ولكنى لى حق التساؤل، ماذا تفعل الحركات الإسلامية حقيقة للنهوض بالأمة؟ لقد تعرض الكثير منها لضغوط كبيرة من النظام السابق، فمنها ما تم تدجينه بالكامل لصالح حزب الرئيس المخلوع ومنها ما تمت مصادرة خطابه فلم يخض فيما يغضب ولى الأمر ومنها من ظل يناضل فى المساحة المسموح له بها فواجه الاعتقالات والتنكيل. ولكن حين رفعت جميع الضغوط بعد الثورة ماذا فعلوا؟ أو بالأحرى ماذا اختاروا ان يفعلوا بعدما أتيحت لهم للمرة الأولى حرية الاختيار؟ بعضهم خاض معركة كسر عظام ضد شبابه الذين أطلقوا الثورة منذ بدايتها مع الآلاف من الشباب المصرى، فحولوهم للتحقيق وفصلوهم وشهروا بهم وشككوا فى صفاء نواياهم. ومنهم من تناسى بشكل مضحك كيف كان يتحاشى السياسة فإذا به يخوض فى عمق السياسة ويجادل فى كل صغيرة وصغيرة (ليست كبيرة مع الأسف) ولم نسمع منهم حتى على سبيل المراجعة أو الاعتذار لما لم يجهروا بقولة حق واحدة فى وجه سلطان جائر لنصرة المستضعفين؟ أما الصوفيون، فما أن زالت قبضة الأمن عن شيوخهم حتى تنافسوا على منصب شيخ المشايخ وكان الأولى بهم التراص والتوافق على ما يخدمون به البلد وهم يعدون بالملايين كما يتباهون دوما.
والأدهى ان جميعهم قد خاضوا صولات وجولات للتنافس فيما بينهم للسيطرة على المساجد بعد أن بدت الأوقاف ومن ورائها الأزهر كرجل مريض يتم اقتسام تركته وهو بعد حى يرزق. لست أدرى بم يكيف المنخرطون فى الحركات الإسلامية هذه المرحلة من عمر الأمة، فمعظم الحركات تحدد نشاطها وفقا لقياسه إما على نموذج سنوات الدعوة الأولى بمكة أو سنوات ما بعد الهجرة إلى المدينة. ولكن الثابت أننا اليوم فى مرحلة فريدة وفى نفس الوقت دقيقة جدا، ونحن بحاجة أن ننتقى لها من السيرة النبوية الشريفة ما يناسبها فى التميز والدقة. فلننتقى مثلا قيم التراحم والتسامح كى نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا عليه. ولنستحضرمشهدا للنبى (صلى الله عليه وسلم) وهو يحفر الخندق مع عامة المسلمين فلا يتهرب من أداء ما عليه من عمل كى نبنى توجها جديدا فى الإدارة يسوده الانضباط والبذل. ومشهد آخر للإمام على رضى الله عنه يكافح فيه الفقر باعتبار أنه قد يورث الكفر من فرط الحاجة والعوز. المشاهد كثيرة والاعتبار لا ينتهى من السيرة النبوية والقيم الإسلامية عامة، ولكنى ارى للأسف أن الحركات الاسلامية التى ظلت لعقود محرومة من الفعل السياسى وقد هجمت على السياسة حتى نسيت دورها الأول والأهم فى الدعوة الخالصة والتنشئة الرشيدة. فإذا تخلت عن دورها المجتمعى الأساسى فى مجال الدعوة، فمن سيقوم به؟ وإذا أصرت على الخلط بين الدعوة الدينية والدعاية السياسية، فمن سيصدقها إذن ويستجيب لدعوتها ويضمن انها منزهة عن الأغراض السياسية.
لست مع الفصل التام بين الدين والسياسة، ولكنى لست مع أخذ الخلاف السياسى إلى الحدية المطلقة بين حلال وحرام رغم أنه فى السياسة كل شىء نسبى. لابد للخطاب الإسلامى الذى تسيس بإفراط بفعل أحداث الثورة أن يترشد دون ابطاء كى يصبح ناهضا بما يناسب مرحلة البناء ومتجاوز المرحلة الاستقطاب الطفولى التى صاحبت الاستفتاء، ومستجيبا فى الوقت نفسه لحاجات الناس الحقيقية بدلا من تخيل تهديد وهمى ضد الدين ويحشد الآلاف لمواجهته.