تجاوزت مجازر غزة فى وحشيتها وأعداد ضحاياها أية توصيفات قانونية دولية تدمغها بـ«الجرائم ضد الإنسانية» إلى كونها عمليات ممنهجة للإبادة الجماعية والتطهير العرقى دون أن يرتفع مستوى إدانتها مصريا وعربيا إلى شىء من الغضب الذى وصلته دولا بعيدة فى أمريكا اللاتينية مثل البرازيل والأكوادور وبيرو وشيلى والسلفادور وبوليفيا التى سحبت سفرائها من تل أبيب أو بوليفيا التى أدرجت إسرائيل على «قوائم الإرهاب» ولا جرت فى الشوارع تظاهرات تتضامن مع جراحها تضاهى من قريب أو بعيد التظاهرات التى عمت عواصم غربية كبرى ولا نهضت النخب الثقافية والفنية بواجبها الأخلاقى والإنسانى فى إدانة الاستهداف الوحشى للمدنيين ونسف الأحياء السكنية على النحو الذى بادر به فنانون غربيون كبار.
لم يكن الأمريكيون اللاتينيون فى حاجة إلى مذكرات إيضاحية تفسر المواقف التى اتخذت والسياسات التى اتبعت، فمشاهد التقتيل الجماعى وحدها تدعو الضمائر الإنسانية أن تتحرك وتتضامن.
«وحدة المصير الإنسانى» من المبادئ الأساسية التى استقرت فى القارة التى عانت طويلا وكثيرا من القمع الوحشى المنظم بينما هنا من يشكك فى «وحدة المصير العربى» وينال من غزة الجريحة وعدالة قضيتها.
ولم تكن الشخصيات الفنية من عالم هوليوود وأضوائه التى ارتفعت أصواتها بإدانة العدوان الإسرائيلى وهمجيته فى حاجة إلى مذكرات إيضاحية أخرى تشرح الفارق بين «غزة» و«حماس» أو رأيها فى المنازعات الإقليمية الجارية فى الشرق الأوسط، فـ«المسألة إنسانية» أولا وقبل أى شىء آخر.
بأية معايير إنسانية فهناك جرائم حرب مروعة حفظتها الصور الدامية ونقلتها إلى العالم بأسره عبر شبكات التواصل الاجتماعى وهزت الضمائر حيث توجد.
لم يقف أحد ليسأل عن هوية الضحايا وما إذا كانوا ينتسبون إلى هذا الفصيل الفلسطينى أو ذاك، فالقضية لها تاريخ طويل وميراثها فى التضامن الإنسانى عميق.
ورغم تراجعها الفادح بأثر انقساماتها وأخطاء منظماتها إلا أنها تظل واحدة من أكثر القضايا الإنسانية عدالة فى التاريخ الحديث كله.
الصور بذاتها تلهم التضامن والتاريخ يزكى.
القضية أهم من أن تلخصها فصائلها والمقاومة أكبر من أى فصيل بعينه.. فى مواجهة الموت فإن المصير واحد.
الخلط جريمة سياسية تستبيح دماء الضحايا وتضفى غطاء على العدوان وجرائمه بحق الإنسانية.
لا حرب هناك بالمعنى المتعارف عليه فى العلوم العسكرية.
لا يوجد تكافؤ فى القوة ولا نوعيات التسليح.. وفى المواجهات المماثلة فإن أقصى ما تطلبه أية مقاومة أن توجع لا أن تحسم، أن تجعل تكاليف العدوان باهظة وفوق طاقة التحمل، وهذا ما نجحت فيه المقاومة الفلسطينية بصورة استنفدت أعصاب آلة الحرب الإسرائيلية وزكت فى الوقت نفسه استهداف المدنيين.
المجازر بذاتها كشفت عجز الجيش الإسرائيلى عن حسم مصير المقاومة وفى استدعاء (١٦) ألف من جنود الاحتياط اعتراف إضافى بالفشل.
بمعنى آخر فإن استهداف المدنيين إرهاب منهجى لجنى ثمار سياسية عجزت عنه الآليات العسكرية فى ميادين المواجهة مع قوات أقل تسليحا وتنظيما.
تحت وطأة الصور الدموية دعت الإدارة الأمريكية إسرائيل إلى وقف استهداف المدنيين وتحصين مدارس «الأونروا» التابعة للأمم المتحدة من القصف العمدى للمدنيين العزل الذين يحتمون تحت سقوفها لكنها أفسحت فى الوقت نفسه المجال واسعا للعدوان أن يتمدد بـ«هدنات إنسانية» متوالية بين مجزرة وأخرى شهدت خروقات دامية وبإمدادات تسليح جديدة لآلة الحرب الإسرائيلية.
من زوايا إنسانية فإن هناك شيئا يتحرك فى العالم له قيمته وتأثيره ترادفه مراوغات دبلوماسية غربية تحاول أن تتنصل من وقع الصور الدموية دون أن تسعى بجدية لوقف العدوان نفسه، تؤيد علنا المفهوم «الليكودى» للأمن الإسرائيلى وتدعو لوقف استهداف المدنيين، رغم أن المفهوم نفسه يحرض على هذا الاستهداف.
بتلخيص ما فإن الأطراف العربية والإقليمية كلها تخاذلت بدرجات مختلفة عن إبداء الغضب الضرورى على الانتهاكات الإسرائيلية البشعة، فتركيا لم تتخذ أية قرارات لها صلة بعلاقاتها الإسرائيلية على أى مستوى دبلوماسى أو عسكرى وبدت انتقادات رئيس وزرائها «رجب طيب أردوجان» للرئيس المصرى «عبدالفتاح السيسى» أكثر حدة وعنفا من أية انتقادات وجهها لنظيره الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو» كأن التجاذب الإقليمى المصرى التركى فوق قضية غزة ودماء أهلها.. وإيران حاولت احتذاء الحد الأدنى من المواقف العامة حتى لا ترتبك تفاهماتها مع الإدارة الأمريكية بشأن مشروعها النووى أو أية تفاهمات أخرى محتملة بشأن المستقبل العراقى وترتيبات المشرق العربى.. والدول العربية باختلاف نظمها كأنها تتابع شريطا سينمائيا تراجيديا على شاشات التليفزيون تتأثر بمشاهده دون أن يكون لها دور فى مساره.
بدا المشهد الإقليمى بإجماله والمصرى بالخصوص فقيرا فى مستويات تضامنه مع محنة غزة ومرتبكا سياسيا ومخزيا فى بعض الحالات إعلاميا رغم أن قضيتها تتعلق بمصير المنطقة كلها.
بصورة أو أخرى فإن الأطراف الإقليمية التى تدعم الرئاسة المصرية الجديدة أو تناصبها العداء تدرك أن غزة قضية مصرية وأن أى حل محتمل يمر فى نهاية المطاف بالقاهرة.
الإدراك نفسه فيه اعتراف بمحورية الدور المصرى فى القضية الفلسطينية بالذات وليست هناك بدائل كثيرة أمام صانع القرار، فإما الاضطلاع بالدور فى حدود القدرات المصرية الحالية إلى أقصى ما يستطيعه وإما الانكفاء على الذات وخلط الأوراق وتبادل حفلات الشتائم الإقليمية فوق جثة غزة ومحنة أهلها.
لا أحد يطلب معجزات تتخطى القدرات المصرية الحالية، ما هو مطلوب أن ينضبط الخطاب السياسى والدبلوماسى على أنين الضحايا وأن تتسق السياسات مع مقتضيات الأمن القومى وأن تتوافق المبادرات مع الحق الفلسطينى فى رفع الحصار عن غزة والإفراج عن الأسرى.
عدم الاضطلاع بالدور بصورة مقنعة خسارة استراتيجية جديدة تفضى إلى تآكل ما تبقى من هيبة موضع وأثر تاريخ.
بصراحة كاملة فإن هناك أضرارا فادحة لحقت بصورة الرئاسة الجديدة فى عالمها العربى من مستوى الأداءين الدبلوماسى والإعلامى، ورغم أن هناك من يتقصد عودة مصر فإن الأخطاء هنا قبل أن تكون هناك والرؤى غائبة.
الانكفاء على الذات وهم واستعداء الأشقاء حماقة، فلا أمل لمصر فى أن تحفظ أمنها ويتعافى اقتصادها دون أن تكون هناك إدارة كفؤة لمصالحها الاستراتيجية فى عالمها العربى تثبت أن هناك سياسة جديدة تختلف توجهاتها عما انتهجته النظم المصرية على مدى أربعين عاما قوضت سمعتها وهمشت دورها، وهذه مسألة حياة أو موت.