بَـصَّـــة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 1:21 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بَـصَّـــة

نشر فى : الجمعة 2 سبتمبر 2022 - 8:10 م | آخر تحديث : الجمعة 2 سبتمبر 2022 - 8:10 م

سرتُ أقصد مَحلَّ البقالةِ بعدما تركت العربةَ في مكانٍ ظَليل، وعلى الرصيفِ المُقابل سارَ رجلٌ يبدو رقيقَ الحالِ مُتواضع المَلبس، قد ادَّخر ما مَلك لقَضمةِ خُبز وترك ذقنَه يطولُ حتى مشارف الصَّدر. ما أن رأى شابًا ورفيقتَه مُتكئين على سيَّارةٍ قديمةٍ في قلبِ الشارع الواسع يتبادلان الحديثَ؛ حتى مال ناحيتهما، وبصَّ في وجهيهما يحاصرهما بنظرةٍ لا تحيد. قلت في نفسي أعجبته نضارتَها وسيرميها بكلمةٍ من قبيل الغَزَلِ أو يغبطُ الشابَّ على وجودِه في صحبتِها؛ لكن الرجلَ لم يفعل، بل صاح فجأة في صوتٍ هادرٍ أسمع الرائحين والغادين: بتعملوا إيه وإحنا مش لاقيين ناكل هه؟ بتعملوا إيه منكم لله، ربنا ينتقم منكم. زالت عني هواجسُ المغازلة والمُعاكسةِ والتَعريض، بينما لم ينطقْ أيهما كلمةً واحدةً؛ وكأن بصَّته المُشتعلةَ قد أسكتتهما لبقيةِ اليوم.
• • •
البصَّةُ اسمُ مرَّة من الفعل بصَّص أي؛ نظر بعمقٍ وتحقيق، والبصَّاصة هي العينُ المُحدقةُ المُدققة، أما البَصِيصُ فشعاع ضوءٍ ووصف يفيد اللمعانَ والبريق، وإذ يُقال بَصيصُ نورٍ وبَصيصُ أملٍ؛ فمزيج يحمل الرقَّةَ والقوةَ في آن. مثل كلماتٍ كثيرة تركنا فيها أثرنا وأظهرنا قدرتنا العظيمةَ على إعادة تشكيلِها والاشتقاقِ منها؛ تحوَّرت البصَّةُ في وقتٍ ما لتلائم احتياجًا واقعيًا مُتزايدًا. اختفت الشدَّةُ من أعلى حرف الصاد، وزيدت في المُنتصَفِ باءٌ، ووُلِدَت كلمةٌ جديدةٌ ذات وقع مُوسيقيّ لا يُنكَر: بَصبَص. لا تُستَخدم البَصْبَصَةُ إلا وأفادت موقفًا بعينه لا يخطئُه السامع؛ فإن بَصبَص فلانٌ لفلانة كان المعنى أنه يُشاغلُها ويلفتُ نظرَها ويدعوها إلى الاستجابة. أتت البَصبَصةُ بعضَ الأوقاتِ مرادَها، وانقلبت مرات أخرى على صاحبِها وبالًا.
• • •
البصَّاصون هم مُخبرو العصور القديمة؛ عرفوا بالتجوالِ بين الناس ليلًا ونهارًا، ومُراقبةِ تحرُّكاتهم وتقصّي أعمالهم بيعًا وشراءً، ثم نقل حصيلةِ ما رأوا وسمعوا لأولي الأمر، وتلقي الرواتبِ والعطايا جرَّاء الوشاية. بصَّاصو القرن الحادي والعشرين عدساتٌ وبشرٌ خلفَ آلاتٍ وخليطٌ مِن أدوات التجسُّس الإلكترونية؛ منها دقائق مُتناهية الصِغر يصعب تمييزُها وفضحها. لم تعد بصَّةُ العينِ كافيةً لكشفِ المَستور، ولم تعد الحياةُ في بساطة إطلاقِ العَسس وسذاجةِ التنصُّت بالأذن. تعقَّدت العلاقاتُ وتشابكت، وصارت العداواتُ والصداقاتُ والأحلافُ بما يستتبعها من خُطَطٍ وتدبيرات؛ أمورًا غائمةَ ملتبسةً، عصيَّةً على الفهمِ والتقرير.
• • •
إذا بصَّ واحد لآخر من أعلى لأسفل؛ فرسالةُ ازدراءٍ وتحقيرٍ مَقرونةً بالتعالي، وإذا خفضَ عينيه وبصَّ في الأرضِ، فكناية عن خجلٍ لفعلٍ لحقَه الندمُ، أو علامة استحياءٍ واحترامٍ وتوقير؛ في حضرةِ من هو أعلى شأنًا، أو خوف من مُطالعةِ أعينٍ أخرى قد تهتكُ سرًا مَكنونًا.
• • •
غنَّت فيروز في طفولتها اللامعةِ "بحلق لي وبُص لي" بصحبةِ أنور وجدي، أدَّت بطولةَ بضعةِ أفلامٍ ناجحة، ثم انفصلت عن راعيها وخبت الأضواءُ التي أحاطتها بعد فترةٍ ليست بطويلة، ولم يعد بين الجمهورِ الواسع مَن يحملقُ في أعمالِها التالية أو يبُص.
• • •
على مدارِ سنواتٍ سابقة، كانت بعضُ المناطقِ التجاريةِ ذات الطابع الشعبيّ تغصُّ بباعةٍ لا مُستقَر دائم لهم، يحملون بضائعَهم ويفدون إلى شارعٍ مُزدحِم، ثم يبدأون في القفزِ والتلويح وهم ينادون: اثنين ونُصّ تعالى بُصّ. يتجمع المارةُ ويشرعون في التنقيبِ والتقييم، ثم يُخرِجون نقودَهم راضين. تسلَّل الباعةُ إلى مناطق نعمَت بالسترِ فيما مضى، ثم أرهق أهلَها الزمنُ وسوءُ المُنقلب، وراحت الظاهرةُ تنتشر من حيّ لآخر، كما تبدَّل الهتافُ إذ لم تعد للجنيهين قوةٌ شرائيةٌ في أيّ مكان على الخريطة. اتَّبع تجارُ الملابس المثلَ فجاءوا أولَ الأمر بالجديدِ مُنخفِض السّعرِ والجَودةِ، ومع تردي الأحوالِ تحوَّلت شوارع عديدة إلى مَوَالد تحوي المُستخدَم والمعيبَ وأحيانًا المَسروق، وصارت البصَّةُ مَخزيةً مَقهورة.
• • •
بُصّ قدَّامك؛ أمر اختصَّ بإطلاقه المُعلّمون وسمعه أغلبُ الطلاب في حصَصِهم؛ ربما خلال أداء امتحانٍ يحتملُ الغِشَّ، وربما أثناء الشرحِ، أو لتنبيه الغافلين وإيقاظهم، وإعادةِ الشاردين في فضاءِ الفصلِ والسابحين في عالمٍ خارج المنهج إلى أرضِ الواقعِ؛ وإن باتت عودتُهم في حُكمِ العَبَث وهَدرِ الوقتِ بلا طائل.
• • •
ثمَّة مأثورٌ ذو شعبيةٍ طاغية يكتب على هذا المنوال: "ما تبُصليش بعين رَضية بُصّ للي مَدفوع فيا". قد يُرى مُلصقًا على توك توك أو ميكروباص، مَنقوشًا على عربةِ فول أو سجق، وغالبًا ما يزين مَوردَ رزقٍ يريد صاحبُه حمايته مِن الحسد. العينُ التي تكتب أحيانًا ”الردية“ وأحيانًا أخرى ”الرضيَّة“؛ هي تلك التي تصيبُ في مَقتل فتمحو وتهدم ما أبصرت، والمراد أن يدركَ الناسُ أن هذا الذي يرونه ويعجبون له، ما جاءَ بغير مُقابل شاق والعدل أن يُصان.
• • •
الحقُّ أن بصَّةً فيها انزعاج وبؤس لا تتوجه إلى بسائط مثل هذه، إنما تستجلبها علاماتُ سَفهٍ وتبذيرٍ باتت تملأ الأركان، ومُبالغات ترفٍ ورفاهةٍ يتعذَّر قبولُها تحت عناوينِ التفاوت الطبقيّ المُعتاد واختلافِ المَراتب والدرجات.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات