«هجان» تجربة سينمائية تفجر حلم الانتصار للذات - خالد محمود - بوابة الشروق
الجمعة 10 مايو 2024 1:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«هجان» تجربة سينمائية تفجر حلم الانتصار للذات

نشر فى : الأربعاء 3 يناير 2024 - 9:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 3 يناير 2024 - 9:35 م
عقب مشاهدتى فيلمه الطويل الأول «يوم الدين» بمهرجان كان عام 2018، والذى نافس على جائزة السعفة الذهبية، أيقنت أننى أمام مخرج يملك فكرا فنيا خاصا، عاطفيا وعميقا من نوع ما، حيث أظهر الفيلم أحد سكان مستعمرة الجذام الذى يصادق طفلًا مهملا ويشرعان فى رحلة بصحبة حمارهما إلى مدن جنوب مصر بحثًا عن الخلاص والقبول.
يعود المخرج أبو بكر شوقى بعد خمس سنوات من تقديم تجربته الأولى «يوم الدين»، ويقدم فيلمه الثانى «هجان»، والذى يقدم فى بيئة مختلفة تمامًا ومنغمسًا فى أساطير وفولكلور الثقافة العربى، فمع «هجان» الذى عرض بمهرجان البحر الأحمر السينمائى فى دورته الثالثة، يضع شوقى أنظاره على الصحراء العربية، موطن بعض متسابقى الهجن الأكثر مهارة وإصرارًا فى العالم، فى صورة سينمائية مدهشة وحوار يتسرب إلى الوجدان، ويجعلك تعيش المغامرة بحس إنسانى متفاعلا بكل جوارحك وقد لعبت الموسيقى التصويرية دورا مؤثرا فى مسار الأحداث.
فى اللحظات الأولى من الفيلم، يصور شوقى، الذى شارك فى كتابة الفيلم مع عمر شامة ومفرج المجفل، أنه بالنسبة لهذه الثقافة، يحمل سباق الهجن أهمية أكبر بكثير من مجرد الفوز أو الخسارة، إنها علامة على الشرف والمكانة الاجتماعية والرجولة، وكلها مرتبطة بالقدرة على أن تكون أول من يعبر خط النهاية، وهو إنجاز رائع من شأنه أن يرفع الفائز إلى مستوى البطل المحلى الذى لن تمحى إنجازاته من كتب التاريخ أبدًا.
نحن أمام مطر الذى جسده باقتدار «عمر العطاوى» فتى شاب نشيط وله علاقة خاصة جدًا مع ناقته التى تدعى «حفيرة» وتعد أكثر من مجرد جمل سباق، فهى صديقته المقربة ورفيقة روحه تتوحد معه وكأنها بشر، عندما يتعرض شقيق مطر لحادث مأساوى حيث يطعنه أحد المتنافسين فى الطريق، يجبر مطر على إعادة النظر فى هدف حياته، ينطلق فى رحلة محفوفة بالمخاطر للانتقام لمقتل أخيه والحصول على حريته بالفوز.
بعد دخوله عالم سباقات الهجن الذى يبدو ساحرًا ولكنه وحشى بطبيعته وغير عادل فى كثير من الأحيان، سرعان ما يصبح مطر فارسًا ويفاجئ الجميع بمهاراته، بعد فترة وجيزة، أصبح ناقته حفيرة سلعة رائجة وتم شراؤها من قبل أحد أغنى السكان المحليين «عبدالمحسن النمر» الذى يتوق إلى إضافة الجمل وفارسه إلى فريق السباق الخاص به على أمل التأهل إلى السباق الكبير فى البلاد، وهو جمل باهظ الثمن يحظى بمتابعة عالمية، حدث سباق يحصل فيه الفائز على الناموس، وهو أعلى وسام اجتماعى يمكن للمرء أن يأمل فيه، عندما يكتشف مطر فى النهاية أن ذلك الرجل الذى يمثل الأنانية والطمع والشر كان وراء وفاة شقيقه، تأخذ الأمور منعطفات أكثر قتامة ويجب على مطر أن يقرر ما إذا كان قادرًا على الانتقام والخلاص وكسب نفسه.
ينبض فيلم «هجان» بالحياة حقًا من خلال مشاهد سباقات الهجن المكثفة، والتى يتم تنفيذها بشكل رائع من خلال التصوير السينمائى الجميل والمونتاج الواعى وموسيقى ملهمة لأمين بوحافة، الذى يقدم هنا واحدة من أكثر الموسيقى التصويرية إثارة للاهتمام لهذا العام متدفقة ورشيقة ومؤثرة بعمق والنتيجة آسرة للغاية لدرجة أنها تعوض فى العديد من لحظات الفيلم الكئيبة والصامتة وغير المثيرة وتعطيه الهزة التى تشتد الحاجة إليها عندما تعود الكاميرا إلى ميدان السباق، مما يسمح لنا مرة للاندماج ليحدث على الشاشة ولمصير مطر.
الفيلم يعرض صحراء السعودية الجميلة وعالم سباقات الهجن الفريد كعنصر ثقافى متكامل، كل مشهد سباق يبعث الحياة لشخصياته من جديد بدراما متفجرة بمشاعرها الإنسانية، وعندما يعود الفيلم إلى الصحراء، فإن سحر الرمال الذهبية والجبال المؤرقة، إلى جانب النتيجة الرائعة، يعيدنا للمشاهدة والبهجة.
«هجان» ينتمى تماما لنوع السينما التى أحبها؛ تلك الأفلام التى تشعرك بالخصوصية أثناء مشاهدتها بواقعيتها وصدام أبطالها بين الخير والشر والمعاناة التى تولد الحلم لدى المستضعفين.
نقطة حيوية مهمة صاغها السيناريو لمأزق الصغار الذين يعيشون مع نظم قاسية وحياة تتطلب الكفاح من الحياة وإثبات الوجود وكيف أن القدر يمكنه أن يقف بجوارك مثلما عاندك وقسى عليك.
إنه فيلم رائع نجح فى الجمع بين الرياضة المثيرة والإرث العائلى والانتقام فى صورة مميزة ومزهلة وإيقاع محكم وملىء بالإثارة؛ يترك مجالًا للجمهور للتنفس، اجتمع كل عنصر تقنى معًا ليخدم القصة فى النهاية بحالة درامية سلسة دون تحزلق أو سخف، راسخة فى الماضى الثقافى والحاضر والمستقبل.
بعد خروجى من هذا الفيلم شعرت فجأة بالانتقال إلى صباى وكم كان يجب أن أتمسك بالحلم والهدف وأن أوقن، بوجود الخير مقابل الشر، والشجاعة أمام الجبن، وأن النزاهة والشرف واجبنا تجاه أنفسنا والآخرين.
تمسك هجان بإيقاعات سردية مألوفة دون أن يكون زائدًا عن الحاجة، وقدم نسخته الخاصة من القصة التى سمعناها جميعًا مرارًا وتكرارًا طوال حياتنا ــ لأن هذه قصة تستحق التكرار.
نعم يسلط هجان الضوء على الجوانب الخالدة للتجربة الإنسانية: الحزن، والعاطفة، والتقاليد، وسرد القصص، ورفضنا العنيد للاستسلام، والانتصار ــ وأيضًا تكلفة النصر.
الفيلم بالطبع كلاسيكى فى سرده لكنه بمثابة نسمة من الهواء المنعش لتحقيق الذات بمساره الخاص، خارج تلك الضغوط التى تسيطر على صناعة السينما، تركيزه القوى على سرد قصة مطر، وروايتها بشكل جيد، يضفى على الفيلم روحًا وإصرارًا حقيقيين، ويرفعه إلى مستوى الملحمة الجميلة المترامية الأطراف، مبهرة، ومؤثرة،
نعم بكيت فى مقعدى فى بعض اللحظات، نعم أحب الفيلم الذى يجعلنى أدمع لكنه يتيح لك الاحتفاظ بنهاية سعيدة.
وأخيرا كان أداء بطلنا الصغير عمر مطار مدهشا بانفالاته وصمته والتعبير بعينه التى تعكس كل وجوه الحياة وأتوقع له مستقبلا باهرا، وكذلك عبدالمحسن النمر الذى جسد الطمع باقتدار.
خالد محمود كاتب صحفي وناقد سينمائي
التعليقات