الــذُّعر - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 8:31 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الــذُّعر

نشر فى : الجمعة 3 أبريل 2020 - 10:05 م | آخر تحديث : الجمعة 3 أبريل 2020 - 10:05 م

داخل السوبر ماركت الشهير الذي تنتشر أفرعُه في أغلب الأحياء الثَّرية والفقيرة، راحت السيدةُ الخمسينية تتلفَت حولها وتحدّق في البضائع المَرصُوصة، ولما لم تجد ضالتَها؛ صاحت على البائع الشاب: "فين الكلور؟". أجابها دون تفكير: "نفد". انتفضت السيدةُ جَزِعَةً من هَول المَوقِف، ورمقته في استنكار عظيم. بدت شديدة الاستياءِ من ردّه المُتسَرّع، وتهدجت نبراتها: "ما فيش؟ يعني إيه ما فيش؟". أخذت تشير بيدها إلى هذه الزجاجةِ وتلك العلبة وإلى الأكياسِ الصغيرة المُبعثَرة في صندوقِها، مُحاوِلةً تحريض البائع على التراجُع عن إجابته، وأخيرًا قالت: "ده إيه ده؟" ردَّ البائع: "سائل مُنظف ومُطهّر". عاجلته ظافرةً وهي تضع العبوةَ البلاستيك ومثلها ثلاثة أخريات في السَلَّة الفارغة التي تحملها: "ما دام مُطهّر يبقى فيه كلور.. لازم فيه كلور".
***
دفعت السيدةُ ثمنَ بضاعتِها أُحاديةِ النوع وخَرَجت، وخَرَجْت أنا وراءَها بعد لحظات، حيث الشارع خاو إلا مِن بضع سيارات تمرقُ مُسرِعةً؛ لا يوقفها شيءٌ سوى المَطبَّات الطبيعية والحُفر التي لا تزال تملأ المنطِقة. فجأة انطلق مُكبر صوت؛ مُذيعًا عبارةً قصيرة تشبه تنبيهات عربةِ الإسعافِ في مُرورها أثناءَ أوقاتِ الازدحام. انتفَضَت السيدةُ مَذعورةً مرةً أخرى، وكفَّت عن السير لتُنصِتَ إلى التنبِيِه الهَام؛ لكنه لم يتكرَّر. بدا عليها القلقُ وهي تمدُّ بَصَرَها باحثةً عن مَصدر الصَّوت، وأخيرًا لم تجد مَفرًا مِن أن تستوقفني: "هو بيقول إيه؟ هه؟ بيقول إيه؟".
لم يكُن مِن غيرنا في هذه اللحظة بالشارع، اعتذرت لأنني لم أُميّز ما قِيل، ولا أعرف حتى مَن الذي قال. لم تُرِحها الإجابةُ فتسَمَّرت مكانها لبُرهة وَجيزة ثم تناوَلت إحدى زجاجاتِ المُنَظّف وفتحَتها. بدا ذعر المرأة عميقًا، أما السبب فما مِن حاجةٍ للبحث عنه.
***
رسائلُ التخويف غزيرةٌ مُتوافِرة، والأجواءُ العامةُ تُشجّع على المُبالغة في اتخاذِ إجراءاتٍ؛ هدفها الظاهر الوقاية، فيما تفصيلاتها الصغيرة تؤكد سذاجتَها وعدم جدواها. أكملت طريقي أفكّر في تبِعات استخدام المُطَهّرات بكثافةٍ وإسراف، وفي ميكروبات تتعلَّمُ بعد فترةٍ كيفيَّةَ التعايُش مع مَواد كانت بالأمسِ تقتلها، وفي القفَّازات الطبّية التي كَسَت الأيدي في كُل مكان، وراح الناسُ يتعاملون مِن خلالها وكأنها هي ذاتها أداةُ تعقِيم؛ فيُمسِكون بها الطعامَ الذي يأكلون ويُسلّمون على الأحباء ويتناولون البضائعَ التي يبتاعونها. صارت القُفَّازاتُ أياديَ بديلةً؛ تَحمِلُ ما تَحمِل وتنقلُ ما تنقُل.
***
مثل هذه السيدة مئات آلاف وربما ملايين؛ أصابهم ذعرٌ حقيقيٌّ وأقعدهم عن مُمارسةِ الحياةِ الطبيعيةِ، بل وعن أداءِ مَهامٍ ضرورية. قالت الجارةُ التي لقيتها تضع صفيحةَ القمامةِ على درجاتِ السُلَّم؛ إنها أعطَت الخادمةَ إجازةً إجباريةً خوفًا مِن أن تنقلَ إليها العدوى. ليست الجارةُ بعجوزٍ طاعنةٍ في السّن؛ لكنها في الوقت ذاته ليست شابةً قادرةً على تنظيفِ المكان بصورة مُلائِمةٍ وحدها؛ وقد وجدت نفسَها بين اختيارين، وانتقت منهما ما يُهدئ مَخاوفَها ويُشعِرها بالاطمئنان.
***
في مَناطق تقَع على الهَوامِش والأطراف؛ أشخاصٌ لا علاقة لهم بحالِ الذُّعر المُنتَشِرة، ولا بأفعال الفيروساتِ والأوبئة، هي مَحضُ كلماتٍ تعبُر مَسامِعَهم دون أن تتركَ فيها أثرًا. طَرَقْت خلال الأيام الماضية حواريَ مُتشعّبة بيوتها شِبه عَشوائية وتخطيطها مُلتَبِس على الزائرين؛ رأيت أطفالًا فوق رؤُوسِ بعضِهم البعض، ونساءً يحمِلْن على رؤوسِهن أقفاصَ الخُضرواتِ وأرغفةَ الخُبز، يَسِرن بمهارة بين حُفَر تملأها مياهٌ عَطِنَةٌ تزكُم الأنوفَ، وأنواعًا مِن الطيور تمرَح على الأرض، وقططًا وأحصنة وبغالًا، كلها مُتجاورة مُتداخلة ومُتجانِسة في مساحاتٍ ضيّقة شديدة الضيق، يتسلَّل التوك توك في شرايينها الرئيسةِ، ويوفّر وسيلةَ انتقالٍ عبقريةٍ لأعدادٍ هائلةٍ مِن البَشر. يتحرَّك هؤلاء دون تحفُّظات ولا أثر بينهم لكِمامَةٍ أو قُفَّاز.
***
ما بين الفريقين مسافة تُقاسُ بالأميال، والعادةُ التي دَرجنا عليها أن ننقَسِمَ ما بين أبيضٍ وأسود ونبتعد عن الدرجاتِ الوُسطى؛ فإما التَمادي في اتخاذ الاحتياطاتِ والوُصُولِ إلى أقصى درجاتِ الرُّعب والانعزال، أو تجاهُل الأمر وإهمال أدنى شُروطِ الصّحة التي لا تتطلَّب وجودَ وباءٍ لاتّباعها، والحقُّ أن المَسئوليةَ مُشتركةٌ في الحالِ الأخيرةِ؛ فنظرة لأوضاعِ المَناطِق الفَقيرة، تجعل مِن سُبلِ الحِمايةِ المُفتَرَضَة التي تُعلِن عنها وسائلُ الإعلام ليلَ نهار؛ رفاهيةً لا تُطاق.
***
على كل حال؛ يلعب العاملُ النفسيّ دورًا لا بأس به في عملية المُقاومة وحَشْد الجِسمِ لأسلحتِه واستنفار مناعتِه، والعلم يقول إن الخائفين، المذعورين، واليائسين هم أقلّ قُدرةً على مُقاومة الأمراضِ بوَجه عام؛ فقد يفتك الفَزَعَ بالمَرءِ ويُجهِزُ عليه، قبل أن يُصيبَه كائنٌ دقيق هزيمته مُحقَّقة طال الوقت أو قصُر.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات