ثقافة الاحتجاج - سلامة أحمد سلامة - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 9:09 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثقافة الاحتجاج

نشر فى : الإثنين 4 يناير 2010 - 9:20 ص | آخر تحديث : الإثنين 4 يناير 2010 - 9:20 ص

 شهد المصريون طوال الأسبوع الماضى فى شوارع القاهرة وميادينها، وعلى حدود رفح والعريش، مسيرات ومظاهرات احتجاج أوروبية للتضامن مع أهالى غزة، والتعبير عن رفضهم لكل أنواع القمع والحصار ضد الفلسطينيين، بما فى ذلك إقامة الجدار الفولاذى حول غزة. شارك فيها عدة مئات من 42 دولة أوروبية. لم يجدوا غير المقاومة والحصار من أجهزة الأمن المصرية التى لم تسمح لها بالمرور إلى غزة. فافترشوا الأرض أمام السفارة الفرنسية وحديقة الحيوان. وعرفوا الطريق إلى سلم نقابة الصحفيين.

ولسبب أو لآخر لم تمنعهم الشرطة من التظاهر أمام السفارة الإسرائيلية. ووقعت مصادمات، ذاق فيها الأجانب من جنسيات ودول مختلفة بعض ما يذوقه المصريون عادة على يد الشرطة وفرق الكاراتيه. واكتشف المصريون أن الشرطة يمكن أن تعاملهم معاملة أكثر إنسانية لو كانوا أجانب. وقد رأيت شابا أجنبيا يقف بمفرده على رصيف السفارة الفرنسية يحمل لافتة احتجاج، وقد أحاطت به ثلاثة كردونات من الشرطة، دون أن يصاب بمكروه.

قدم الأوروبيون الذين كلفوا أنفسهم عناء السفر من بلادهم إلى مصر، وتكبدوا مشقة تنظيم مسيرات الاحتجاج تمسكا بحقهم فى التجمع السلمى والتظاهر والتعبير عن آرائهم طبقا لما تدعو إليه المواثيق الدولية وحقوق الإنسان، مثالا حيا لأسلوب المقاومة السلمية فى قضية يرونها عادلة. هى قضية الحصار الذى يتعرض له الفلسطينيون منذ أكثر من عامين، وتشارك فيه دول عربية سواء بالصمت أو خوفا من إغضاب إسرائيل.

.. فناموا فى الشوارع والميادين، وعطلوا المرور فى بعض الأحيان. ولكنهم بعثوا لشعب مصر والشعوب العربية ولشعوب العالم رسائل مثيرة. فلم تكد نشرة من نشرات الأخبار فى فضائيات العالم تغفل الحدث، وتنقل ما يجرى فى شوارع القاهرة بالصوت والصورة.

تمثل ثقافة الاحتجاج فى الديمقراطيات الغربية أداة مهمة من أدوات التعبير والتصحيح للسياسات الرسمية. ولهذا السبب أصبحت أنشطة جماعات الحقوق المدنية جزءا لا يتجزأ من الفضاء السياسى العام فى العالم. وفى كل المؤتمرات والاجتماعات الدولية التى تعقد على أعلى المستويات، تترك مساحة موازية للاجتماعات والمسيرات التى تنظمها جماعات الحقوق المدنية لكى يحدث التوازن المطلوب بين ما تفرضه أجهزة السلطة البيروقراطية وما يلبى احتياجات الشعوب ومطالبها. ومظاهرات الاحتجاج السلمية لا ينبغى أن تثير استياء أحد إلا عندنا فى مصر، التى لا تعترف السلطة فيها بالطقس الشعبى الذى يؤكد وجود الجماعة وحقها فى التعبير عن آمالها وتطلعاتها.

فنحن فى مصر لا تمثل ثقافة الاحتجاج بالنسبة لنا غير مظهر من مظاهر الشغب والفوضى ومعارضة الحكومة والنظام العام. وفى مسيرات التضامن التى نظمها الأوروبيون مع أهالى غزة، كان يمكن بقليل من حسن التفكير والتدبير، أن تتحول هذه المسيرات إلى فضح وكشف لجرائم إسرائيل أمام العالم. وكذلك لحكومات الدول الأوروبية نفسها فرنسا وبريطانيا وألمانيا، التى اتخذت موقفا سلبيا جامدا من الحصار الإسرائيلى للفلسطينيين وساندت بذلك جرائمها وسياساتها الاستيطانية الاستعمارية. إذ ما الذى كان سيكلف مصر لو تركت جموع المتظاهرين الأوروبيين يعبرون الحدود إلى غزة، ويتعاملون وجها لوجه مع شعب عربى تحت الاحتلال الإسرائيلى. لاسيما ونحن كمصريين لا نستطيع تنظيم مسيرات احتجاج ضد إسرائيل. ونأخذ بأضعف الحجج والأساليب حين نقرر بناء جدار تختلف الآراء حول مدى جدواه، وهل هو لتأمين حدود مصر أو لتأمين إسرائيل؟!

وحيث لا تجد ثقافة الاحتجاج والاختلاف فى المجتمع المصرى مكانا، فقد كان طبيعيا أن تنعقد جلسات للسباب وصب اللعنات والشتائم من أنصار الحكومة على نواب المعارضة فى مجلس الشعب، لأنهم حاولوا الحصول على إيضاحات لمعنى الجدار ومبناه. وبذلك يتطور التراث البرلمانى المصرى من المنحدر إلى الحضيض، وتكتسب ثقافة الاحتجاج والاختلاف أبعادا غير مسبوقة فى الخطاب السياسى على نحو لم يعرفه تاريخ البرلمان المصرى، الذى يتصدى زورا لزعامة البرلمانات العربية!

وتصل الأمور إلى ذروتها حين يجد مجمع البحوث الإسلامية نفسه محشورا ومدفوعا إلى استغلال الدين فى قضية سياسية تختلف حولها وجهات النظر. فيصدر بيانا باسم المؤسسة الدينية يكفر فيه الذين يعارضون بناء الجدار، ويعتبرهم مخالفين للشريعة الإسلامية دون أن يوضح أحد العلاقة بين الشريعة والجدار. ولا يتعلم هؤلاء الجالسون فى مقاعدهم فى الأزهر شيئا من مسيرات الاحتجاج الأوروبية التى جاء أفرادها إلى مصر من أصقاع العالم تأييدا لقضية سياسية يرونها عادلة. دون أن يزجوا بالدين أو يربطوا بينه وبين الموافقة على الجدار أو الاعتراض عليه. هؤلاء الأزهريون بالطبع يسيئون للإسلام وإلى ادعاء العلم به.

قد يتساءل الكثيرون عن جدوى مسيرات الاحتجاج الأوروبية التضامنية مع غزة، وهل تنجح فى حمل إسرائيل على رفع الحصار على الفلسطينيين وإمدادهم بصفة دائمة باحتياجاتهم من الغذاء والدواء، أم تبقى مجرد فقاعة إعلامية مؤقتة سرعان ما تنفجر فى الهواء؟!

هذه المسيرات طبعا قد لا تحل المشكلة. ولكنها على الأقل تدق أجراس الخطر بين حين وآخر، وتفعل فى تنبيه الرأى العام العالمى ما لم تفعله الدول والشعوب العربية التى استكانت للوضع القائم ولم تعد قادرة على مقاومته، بل راحت تتسول حلولا وتنازلات جزئية يرفضها الفلسطينيون أنفسهم.. هذه المسيرات على الأقل تقض مضاجع إسرائيل وتحاول إيقاظ الضمائر الأوروبية. ومن حيث لا تدرى تقض مضاجع الأنظمة العربية وتحفز شعوبها. ولذلك كان لابد من مقاومتها وعرقلة مسيرتها!! وقد فعلنا كل ما فى وسعنا ولم ننجح!!

سلامة أحمد سلامة صحفي وكاتب مصري كبير وصاحب آراء ليبرالية قوية وجريئة وبناءة في مسيرة الصحافة العربية. يشغل منصبي رئيس مجلس تحرير جريدة الشروق ورئيس مجلس تحرير مجلة وجهات نظر. هو صاحب العمود اليومي من قريب في جريدة الشروق وكان في السابق نائبا لرئيس تحرير الأهرام.
التعليقات