شركات العقار الصينية... أول الغيث - مدحت نافع - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 11:21 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شركات العقار الصينية... أول الغيث

نشر فى : الإثنين 4 أكتوبر 2021 - 7:25 م | آخر تحديث : الإثنين 4 أكتوبر 2021 - 7:25 م
«النقود لا تلد نقودا»... هكذا قال الفيلسوف العظيم أرسطو المتوفى عام 322 قبل الميلاد، والذى ظلّت تعاليمه منهلا للتشريع فى العالم القديم لعدة قرون. ثم جاءت الأديان الإبراهيمية لتحرّم الربا بصور ودرجات متفاوتة، وتضع قيودا على إدارة الدين. اليوم تحوّلت الديون إلى ركن لا غنى عنه فى النظام الاقتصادى العالمى، وأخفيت الفوائد فى عدد كبير من منتجات الهندسة المالية، حتى بلغ حجم الديون ما يقرب من 356% من الناتج الإجمالى العالمى. وفقا لمعهد التمويل الدولى فقد بلغت الديون عالميا ما قيمته 296 تريليون دولار فى الربع الثانى من العام 2021 وهو أعلى مستوى بلغته فى التاريخ، وإن كان يعكس تحسنا نسبيا فى نسبة الدين إلى الناتج الإجمالى العالمى، ولكن بعد طفرة كبيرة فى تلك النسبة فى العام الماضى 2020.
لم تعد أنباء الأزمات والصدمات العالمية نادرة كسابق عهدها، الكل يترقب فقاعة هنا أو هناك كى تنفجر. السبب فى الغالب منتجات مالية رديئة، تحمل التزامات كبيرة لا تقابلها أصول وتدفقات مالية لتغطيتها. هكذا كانت كل الأزمات المالية خلال أكثر من قرن من الزمان. لكن العالم لا ينفك يبحث عن وسيلة لامتصاص تلك الصدمات والتعايش معها دون الحاجة إلى تغيير جوهرى فى آليات عمل الاقتصاد ومقومات استدامته.
البنوك المركزية تنفق المليارات فى شراء تلك الأوراق المالية الرديئة، تحاول بذلك وقف النزيف ومنع السقوط. الحكومات تطلق خطط الإنقاذ الذى تشمل منح تسهيلات للمتعثّرين، مع التركيز الأكبر على المؤسسات المدينة لا على جماعة الدائنين من المؤسسات والأفراد، حرصا على استمرار دوران عجلة الاقتصاد كالمعتاد. التحدى الأعظم لتلك الاستراتيجية يأتى من اهتزاز الثقة فى الأسواق، كل الأسواق بلا استثناء.
***
ليس ثمة حكومة فى العالم تدير اقتصادا عظيما كما تفعل حكومة الصين. الحزب الحاكم يملك العديد من الصلاحيات والأذرع، يمكنه أن يتدخل فى أى وقت لمنع الانهيارات. على الرغم من ذلك فقد استيقظ العالم منذ أسابيع قليلة على أزمة تعثّر مجموعة إيفرجراند Evergrande الصينية عن الوفاء بالتزاماتها تجاه بعض الدائنين من حملة السندات مستحقة الفوائد، والمقاولين والموردين، بل والمستثمرين الذين قاموا بحجز بيت الأحلام فى أحد مشروعات المجموعة ذات الألف وثلاثمائة مشروعا عقاريا فى نحو 280 مدينة صينية.
مجموعة «إيفرجراند» تملك العديد من الشركات، وتعمل فى أنشطة مختلفة مثل الأغذية والمشروبات وصناعة السيارات الكهربائية والأنشطة الرياضية... لكنها تحوّلت إلى عملاق عقارى بامتياز، يحتل المركز الثانى كأكبر شركة عقارية فى الصين والمركز 122 بين أكبر 500 شركة فى العالم. تلك الإمبراطورية العملاقة التى ساهمت فى حفز معدلات النمو الصينى خاصة فى مرحلة ما بعد صدمة الجائحة، أقامت بنيانها على جبل من الديون، بلغ نحو 305 مليارات دولار، أى أكثر من مثلى حجم الدين الخارجى لمصر (بلغ 134.8 مليار دولار بنهاية مارس 2021). منذ نحو أسبوعين كان قد مضى موعد التزام على إيفرجراند لسداد ما يعادل 83 مليون دولار كخدمة دين للمستثمرين فى سنداتها، لكن الشركة لم تبد أية إشارة للالتزام بالسداد! وعلى الرغم من كون فترة السماح لسداد ذلك الالتزام تمتد إلى ثلاثين يوما، فإن سندا آخر جاء موعد استحقاقه بعد أيام من سابقه. تداعت لذلك أسعار سهم المجموعة المقيدة فى بورصة هونج كونج، حتى بلغت مستوى من التراجع لم تشهده منذ 11 عاما.
وقد تحرّك البنك المركزى الصينى (بنك الشعب) وقام بضخ نحو 460 مليار يوان (ما يعادل 71 مليار دولار أمريكى) فى البنوك الصينية. كما بدأ بعض المسئولين الصينيين فى التلميح بوجود أزمة لدى بعض الشركات العقارية دون أن يسمّى إيفرجراند. إلا إن الحكومة الصينية لم تكن سعيدة بتطور حجم المديونيات فى الشركات العقارية. قصص التعثّر المالى بدأت منذ عام فى عدد من الشركات العقارية الصينية الأصغر حجما بالطبع، لكن اطمئنان المستثمرين إلى حتمية التدخل الحكومى عند الضرورة كان وبالا على الصين.
فى الدول التى تتبنى قيم اقتصاد السوق ومبدأ «دعه يعمل دعه يمر»، تعمل آليات السوق بشكل تلقائى لتعاقب المتخاذلين، سواء من استدانوا بغير غطاء مناسب من القيمة، أو الذين اشتروا أدوات الدين ومنحوا القروض والتسهيلات الائتمانية لمن لا يستحق أو لمن تزيد حجم مخاطر إقراضه عن أى مستوى للتسامح مع تلك المخاطر. أما فى الدول التى تشتد قبضتها على آليات السوق، وتملك التأثير على الإعلام والإجراءات القضائية... بل والتى تضع قيودا على تدفق الأموال خارج البلاد، فإن الصدمة ذاتها تكون خفيفة التبعات المباشرة، لكنها تترك ندبات وآثار تظهر فى المستقبل مهما طال بها الزمن.
الوضع الآن فى الصين يشبه كرة النار المستعرة فى غابات كثيفة تحجبها عن الناظرين، لكن حرارتها تلفح الجميع، تسوقها رياح الريبة والقلق من طبيعة وحجم الديون غير الحكومية، التى تنخر فى ثانى أكبر اقتصاد فى العالم.
انغلاق الاقتصاد الصينى عن العالم كانت له فوائده فى أزمات سابقة مثل أزمة النمور الآسيوية فى عامى 1997 و1998. الأموال لا تخرج بسهولة من قلب الاقتصاد، والانفتاح على المستثمرين الأجانب ليس مخيفا أو مقلقا فى الداخل الصينى. لكن مع زيادة الانكشاف على مديونيات تجاه المستثمرين الأجانب (على وجه الخصوص) فإن النموذج الصينى بدأ يتحوّل تدريجيا إلى صورة باهتة من اقتصاد اليابان، الأمر الذى لا يمكن أن تحتمله طبيعة الدولة فى هذه المرحلة. سبق أن أعلن الرئيس الصينى الحالى عن مخاوفه من الأزمات المالية، وأنه يعتبرها من أكبر التحديات المستقبلية لبلاده. اليوم ينتظر الرئيس البدء فى ولاية ثالثة، بينما تلوح فى الأفق أزمة «إيفرجراند» لتذكّر الناس بمخاوف الرئيس.
***
شركات العقارات الصينية ليست سوى ناقوس خطر يصفع الآذان بكون مخاطر تضخم الديون هى أسوأ ما واجهه الاقتصاد العالمى منذ التحوّل من قاعدة الذهب، وربما قبل ذلك بكثير. القيمة التى تتأرجح بين أوعية مختلفة للاستثمار، وتجد فى العقارات ملاذا مضمونا لها خاصة فى الدول كثيفة السكان مثل الصين والهند ومصر... سرعان ما تنكمش أمام وحش نهم من الديون لا يشبع أبدا، إذ يأكل من تلك القيمة أضعاف ما ينتجه المجتمع.
المستثمر الرشيد الذى تراهن عليه معظم مدارس الاقتصاد السائدة، سيكون معول الهدم الأكبر للاقتصاد العالمى عما قريب. هذا المستثمر يتخير دائما من الأدوات أقلها عناءً وأكثرها ربحية. أدوات الدين فى القطاع العقارى ــ مثلا ــ أكثر ربحية من أسهم ذلك القطاع، خاصة إذا اخذت المخاطر السوقية فى الاعتبار. فإذا تراجعت مخاطر الاستثمار فى السندات والصكوك الصادرة عن تلك الشركات إلى ما يقرب من الصفر، سيّما مع توافر ضمانة حكومية غير مشروطة بمنع شركات القطاع من الانهيار والإفلاس، فإن شراء الدين يتضاعف بمعدلات مقلقة. الأمر يسرى كذلك على الدين الحكومى الذى تضمنه الدول بمؤسساتها السيادية، وترفع من أسعار العائد عليه بشكل ملفت مع ضمان السداد بما يجعله أكثر الأوعية جذبا فى الدولة المدينة، مزاحما بذلك لسائر الأنشطة والأوعية الأخرى.
من للصناعة والزراعة والتجارة بل ومختلف الخدمات، إذا ما تفرّغ المستثمرون فى اقتناص فرص إقراض الشركات والحكومات المتعثّرة، مع تحقيق ربح كبير وسريع من شأنه تعويض أى أزمة مستقبلية بعيدة الاحتمال؟!.
إن منتديات الاقتصاد بل والأمم المتحدة ومختلف الاتحادات الإقليمية مطالبة اليوم بالتدخل العاجل للحد من تضخم الديون، ووضع القيود على التوسّع فى إصدار وتداول تلك الأدوات. وإذا كانت الصين قد بدأت منذ العام الماضى فى وضع بعض القيود على الشركات للتوسّع فى الحصول على قروض وبيع سندات، فإن هذا التدخل المتأخر كان كاشفا لسوء الوضع، وساهم إلى حد كبير فى انكشاف المركز المالى لإيفرجراند. لا يعنى ذلك أن تتمادى الحكومات فى التراخى والتهاون من المقترضين خشية انكشافهم، بل يدعو إلى تحرّك شامل وعاجل للتعامل مع هذا الداء العضال مهما كانت تكاليفه المبكرة.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات