غزل البنات - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 7:07 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غزل البنات

نشر فى : الخميس 4 نوفمبر 2021 - 8:45 م | آخر تحديث : الخميس 4 نوفمبر 2021 - 8:45 م
هذا الشاب الذي يعلّق فوق عصا طويلة عشرات من أكياس النايلون تضّج بالبهجة واللون البمبي الفاقع ما إن أراه حتى يشاغلني. يقف في منتصف رصيف طويل فتبدو بضاعته كما لو كانت لطشة فرشاة لفنان مغمور أراد أن يكسر حدّة اللون الرمادي الذي يحاصر البائع من كل صوب فإذا هو يضع في وسط اللوحة مجموعة من النقاط البمبي المفرحة جدًا. أما مزماره والصوت القصير المميز الذي يخرج منه فلم أفهم أبدًا سر علاقته بغزل البنات، فالبضاعة الأخرى لا تجد مَن يعزف لها حتى البالونات التي تتشابه مع غزل البنات في السياق العام فإنها تحلّق في الهواء لا حِس ولا خبر. تفرق معي كثيرًا مسألة الأصوات الموسيقية التي تصاحب عملية البيع، زمااان قررَت أسرتي على غير عادتها أن تقضي فصل الصيف في بورسعيد من باب التغيير وكنّا نصيّف عادة في الإسكندرية. ومازلت أذكر بائع الآيس كريم الذي كان يرتدي الشورت الكاكي ويركب دراجة مزركشة بقطع من الورق الكريشة الملوّن، ويطوف بين الشاليهات ساعة العصاري بعد أن يكون الجميع قد عادوا من الشاطئ. كان يعلّق في دراجته جرسًا نحاسياً صغيرًا يداعبه فيصدر صوتًا تهتز له قلوب أطفال الأسرة بينما ينادي هو على بضاعته في دلال "عُبَد الورد المتدندش"! من أين أتى بائع الآيس كريم بهذا المصطلح العجيب وما معناه؟ علامة استفهام كبيرة، وما علاقة "عُبَد الورد المتدندش" بالآيس كريم أصلًا؟ علامة استفهام أكبر. التفاصيل لا تهم أبدًا طالما أن الغرض يتحقق، والغرض هو إدخال السعادة على جيش من الأطفال الذين يعشقون الآيس كريم كما هي العادة في كل زمان ومكان. ولعله قد استقر في أذهاننا آنذاك أن "عُبَد الورد المتدندش" هو الاسم الحركي للآيس كريم، وبالتالي فما أن نسمع النداء على "عُبَد الورد المتدندش" حتى نطلب من الأهل قرشين لشراء الآيس كريم.
•••
مؤكد أن بائع غزل البنات الشاب قد ورث هذه المهنة عن والده، فمن الصعب أن يفكّر أحد في بيع غزل البنات الآن إن لم يكن للمهنة تاريخ ممتد في الأسرة، فهذه الحلوى ذات الطعم القطني العجيب تواجه منافسة شرسة من عشرات الأنواع الأخرى من الحلوى ذات الطعوم المختلفة والملونة بكل الألوان الصناعية الممكنة. كنت أحترم في هذا الشاب أنه حمل الراية من بعد أسرته وصمم على مواصلة دورها، وكنت أحترم فيه أيضًا أنه لم يستجب لإغراءات الألوان الأخرى التي زحفت على غزل البنات في محال بيع الحلويات، فغزل البنات لا يمكن أن يكون إلا بمبي كما لا لون للسماء إلا الأزرق، ياااااه إلى هذا الحد؟ نعم إلى هذا الحد فنحن أصوليون في تعاملنا مع الصور الذهنية المستقرة والمرتبطة بمواصفات الأشياء وأشكالها، لذلك لم أنجذب أبدًا إلى غزل البنات ذي اللون الأصفر، فهو مصطنع وغير حقيقي وبلا تاريخ. هذا كلام كبير.
•••
كان بائع غزل البنات يقف في مكانه المعتاد والجو خريفي معتدل ما سمح لنسمات أكتوبر أن تهز أكياس البهجة فإذا بها تنشر موجاتها البمبي في دائرة تلو دائرة. نفخ في مزماره فاختلط صوت المزمار بأصوات العشرات من أبواق السيارات وشتّان الفرق بين الاثنين، أبواق السيارات تتعارك وتتشاكس وتُزعِج أما مزماره فإنه يلعب على المزاج العالي ويثير اللعاب ويُطرِب. نجح الشاب فعلًا في أن يفتح شهيتي ويجدّد ذكرياتي فاشتريت كيسًا من البهجة البمبي ودلفت من باب النادي. بعض الناس يصنّف الأطعمة تصنيفًا عمريًا عجيبًا، هذا يناسب السن من خمس سنوات إلى خمس عشرة سنة، وهذا يصلح لسن المراهقة، وهذا ممكن في سن الشيخوخة، وهذا راحت عليه، هذا وهذا وهذا.. إلخ. ما لم يكن التصنيف نابعًا من محض أسباب طبية أو صحية فأنا لا أقر به، لذلك لم أعترف أبدًا أن غزل البنات هو للصغار فقط. أفتح الكيس فتنبعث منه رائحة قوية للسكّر المختلط بالڤانيليا وكأنها تعلن للناس جميعًا: هنا فَرَح. مع أول نُتفة قطن تذوب في فمي ترتفع نسبة الجلوكوز في شراييني ويجتاحني إحساس مخدّر لذيذ بألا شيء يهم. حلو هذا الإحساس، لا ليس حلوًا فقط بل إنه مطلوب أيضًا، فنحن نحتاج بين وقت وآخر أن نقطع الدائرة الكهربائية التي تصلنا بكل الينبغيات والواجبات والرسميات في محيطنا المباشر لنكون على طبيعتنا الأولى. كمثل الحبر الفوسفوري على السبابة يميّز بين من مارس حقه ومن لم يمارسه في مواسم الانتخابات، تنطلي أصابعي باللون البمبي بعد أن تغوص في الكيس الصغير وتخرج منه بنُتفة حلوى تلو أخرى، هذا أيضًا تأكيد أنني مارَست حقي لكن على مستوى أبسط بكثييييير من المستوى السياسي وهذا أفضل جدًا. يمّر بي طالب أدرّس له في الجامعة ونتواجه، هو يعلق في كتفه مضرب التنس وأنا أمسك في يدي بكيس البهجة، يرتبك ولا يدري المسكين ماذا يفعل، هل يتجاهلني ظنًا منه أنه بذلك يتجنّب إحراجي وقد ضبطني متلبسّة بهذه الفضيحة البمبي، أم يحييني لأن هذه هي الأصول ولأن بيننا كلام وحواديت في أمور خاصة كثيرة.
•••
يقول محمد عبد الوهاب: قلبي بيقولي كلام وأنت بتقولّي كلام وعينيا شايفة كلام والناس بيقولوا كلام.. احترت أصدّق مين واحترت أكدّب مين؟ أظن هذا كان لسان حال طالبي المهذّب لحظة أن التقاني. أعفيته من الحيرة والتردد بين الكلام الذي تراه عيناه وكل كلام آخر.. مددت له يدي بنُتفة محترمة من القطن البمبي وشجّعته بعبارة :خد حتة. كالمسحور امتدت يده لتلتقط مني قطعة الحلوى التي لعلها نزلت عليه من السماء بعد جهد التمرين، ذاب الجليد كما ذاب من قبله غزل البنات، هبّت نسمات جديدة فارتعش الكيس وما تبقى فيه إلا قليل. وقفنا معًا ندردش في غزل البنات وفي أشياء أخرى، وكانت أمسية لطيفة.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات