فوضى الفراغات - عمرو خفاجى - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 1:18 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فوضى الفراغات

نشر فى : الأحد 5 أبريل 2009 - 10:59 م | آخر تحديث : الأحد 5 أبريل 2009 - 10:59 م

 لأن السياسة تعشق المصطلحات، ولأن الساسة يبحثون عن أى سلاح من الكلمات لمبارزة خصومهم، فقد اقتحمت مجموعة من التعابير الحياة العامة فى مصر واحتلت مساحات ضخمة من العراك والنقاش الدائر فى المجتمع، حتى لو لم تكن تلك التعابير ذات دلالات واضحة وملموسة لمن يستخدمونها.

وأصبحت «الفوضى» تسيطر على عناوين الجدل السياسى بين الجماعات المختلفة.. ولعل أبرز مثال على ذلك التعبير الأمريكى الشهير «الفوضى الخلاقة» الذى صكه الباحث والخبير روبرت ساتلوف، والذى جاء إلى القاهرة وشرح مصطلحه و بات أقرب إلى النظرية السياسية منه إلى مجرد مصطلح، على الأقل كان هذا رأيه ورؤيته.. فى ذات الوقت الذى تحول إلى الكرباج الذى تجلد به المعارضة نظام الحكم، بينما استطاع رجال النظام أن يجعلوه تهمة رئيسية للمعارضين الذين لا يريدون لهذا البلد أى نوع من الاستقرار.. وبالطبع كانوا يحرمون هذا المصطلح من صفة «الخلاقة» حتى يكون ما يفعله هؤلاء مجرد فوضى من صنع جماعات عشوائية غير قادرة على أى فعل منظم وبالتالى يسهل إلقاء التهم عليهم.

وأى قراءة سريعة للمشهد السياسى الذى تعيشه مصر حاليا، يكشف أول ما يكشف، عن حالة من الفراغ فى الكثير من المناحى.. والنواحى.. لا تجد من يسدها أو يملؤها، سوى بعض من يتوهم أن هذا مكانه وتلك مكانته، رغم أن واقع الحال، وحقائق التاريخ القريب تؤكد أن من يتقدم لشغل هذه الفراغات هو غير مؤهل ولا يستحق هذه المكانة.. وباتساع مساحة هذه الفراغات أو ضعف من يشغلها باتت الصورة العامة مليئة بالثقوب واكتسبت بسهولة صفة المهلهلة.. وهى صورة لا تبشر بأى شىء.

هذه الفراغات.. تبدأ من مكانة الزعامات السياسية والقيادات الاجتماعية ولا تنتهى عند رموز الثقافة والفن والرياضة.. فَرُقَع الفراغات تتسع يوما بعد يوم دون أن تجد من يرتقها.. فقوى اليسار خارت بعد رحيل مفكريها ومنظريها (آخرهم محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس) أو اعتزال قياداتها التاريخية مثل خالد محيى الدين.. وقامة الوفد تقزمت بعد غيابات فؤاد سراج الدين وإبراهيم فرج ووحيد رأفت.. أو انسحاب القيادات الشابة المبشرة، حتى جماعة الإخوان المسلمين ذات النظام الصارم تقدم صفوفها من لا يعرف كيف يديرها.. وباتت معركة وراثته مستعرة، وأصبحت على مذبح الجماعة وتطرف البعض لاستيراد مرشد من الخارج على اعتبار وجود فراغ واسع خلف المرشد عاكف لا تجد الجماعة من يسده.. «كفاية» شاخت قبل أن تشب.. وهكذا تدور دوائر الفراغات فى جميع الاتجاهات..

وبات السؤال سخيفا عن أسماء قادرة على شغل أى مواقع، فهناك من يستنكر أن يستطيع أحد أن يملأ فراغ على أبو شادى فى موقع الرقيب على المصنفات الفنية.. وهناك من يتحدث عن معجزة أن يجد نادى الزمالك رئيسا له.. وخذ عندك من أصبح الآن يبكى على كمال الشاذلى فى الحزب الوطنى وعلى سمير رجب فى جريدة الجمهورية.. ومحمد إبراهيم سليمان فى الإسكان.. حتى محمود أبو زيد آخر عنقود الذين تركوا أماكنهم.. هناك من ينوح عليه ويسأل عمن يشغل فراغه.

المؤلم فى الأمر، أن الرأى العام يتباكى الآن على الذين كانوا يشكون منهم فى الماضى القريب، وأصبح يصفهم بالعبقرية والكفاءة.. وهو أمر لو صح فإننا مقبلون على كارثة، فهل يعقل أن يتحدث رجل دولة الآن عن أن مصر خسرت الوزير أحمد جويلى «وزير التموين فى حكومة سابقة» لأنه لم يصبح رئيسا للوزراء.. باعتباره الفرصة الأخيرة لإصلاح هذا الوطن، خاصة أن الوطن تكاسل من قبل وفوت فرصة منح قيادة الوزراء للدكتور سعيد النجار رحمه الله، وأنا شخصيا كنت شديد الإعجاب به، لكن إذا كان هذا فكر رجال الدولة.. فلا عتب على اعتقادات جمهور الرأى العام باختفاء أى أسماء تصلح لأى مناصب فى أى مجال.

أما الأكثر إيلاما، فهو أن المجتمع يسأل فقط عن أسماء لشغل مناصب تنفيذية، ويتجاهل تماما أسماء من يصلحون للتفكير فى شئون وشجون هذا الوطن.

لا أحد يسأل عمن يقوم بالدور الذى كان يقوم به زكى نجيب محمود ولويس عوض ويوسف إدريس، لا أحد يسأل عن المفكرين والقانونيين والمشرعين الكبار من أمثال الدكتور وحيد رأفت، لا أحد يسأل عمن يشغل موقع المفكر السياسى مثل لطفى الخولى وحامد ربيع وإسماعيل صبرى عبدالله وسعيد النجار نفسه، لا أحد يكلمنا عن الفراغ الذى تركه المفكر الاجتماعى العظيم د. سيد عويس، لا أحد يسأل عمن يشغل عقل هذه الأمة التى أوشكت على أن تكون بلا عقل تقريبا!!

هذه حالة مريعة من الفوضى.. فوضى الفراغات، لأن اللحظة تملك فى مصر الكثير من الأفكار والقيادات.. فقط مطلوب ثقة من المجتمع، ودعم من النخبة بدلا من معارك فارغة لا تخلف سوى تسميم الجو العام.. لأن هذه المتوالية السياسية لو استمرت نكون فى اتجاه دقيق صوب الهاوية.. لأن الرأى لو اجتمع على أن كل من كان.. كان عظيما.. حتى من سرق، ومن أفسد، ومن خرب، ومن دمر، وأن الحاضر والمستقبل لا يملكان ذخيرة من البشر والعقول.. فسيصدق الجميع ذلك ولن نرضى عن أى اسم كان.. ولن نقبل أى فكرة ولن نرحب بأى اقتراح.. فتكتمل دائرة اليأس.

أعتقد، أن مصر بها الكثير من الأسماء والشخصيات والعقول والأفكار والإخلاص.. فى جميع مناحى الحياة.. فقط مطلوب ثقة من الرأى العام، وتشجيع وشفافية من وسائل الإعلام.. واحتفاء بمن يستحق الاحتفاء.. أىا كان موقعه السياسى وأيا كانت عقيدته الفكرية.. بل يجب ألا نفتش فى ضمائر و نوايا من يطلون على الرأى العام بأى أفكار أو اقتراحات.. ولا نحاسبهم على انتماءاتهم.. لأن الفراغات تزيد وتتسع وتتوغل فى أركان المجتمع.. وعلينا جميعا التحرك لرتق ثوب الوطن على اتساع مساحاته وألوانه.. الرتق بمن هو موجود.. ومنحه الفرصة.. فهكذا فعلت سنوات ما قبل 1952.. فقدمت طه حسين والعقاد وطلعت حرب والدكتور مشرفة ومصطفى النحاس ومكرم عبيد ود. هيكل ومجانية التعليم وتعليم البنات.. سنوات قدمت أمراء من العائلة المالكة يتبرعون بالجامعات والمستشفيات والمدارس.. وأثرياء يرعون الجمعية الجغرافية المصرية وباشوات يقتنون لوحات كبار فنانى العالم.. هى نفس السنوات التى قدمت من قاوم الانجليز وأحال حياتهم فى مصر إلى جحيم.

فقط مطلوب منح الثقة لبعض أبناء هذا الوطن.. فليس الجميع فاسدا.. ولا ملوثا ولا طامعا ولا شريرا.. هناك المجتهد، المخلص فى كل مكان، فابحثوا عنه.. وتقدموا به إلى الصفوف الأمامية.

عمرو خفاجى  كاتب صحفي وإعلامي بارز
التعليقات