القطار والجاموسة والقدر - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 11:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القطار والجاموسة والقدر

نشر فى : الخميس 5 نوفمبر 2009 - 10:54 ص | آخر تحديث : الخميس 5 نوفمبر 2009 - 10:54 ص

 ركب أحد رجال الدين المشهورين بالتقوى وله شعبية ضخمة قطارا متجها لإحدى القرى تلبية لدعوة لإلقاء بعض العظات والحديث عن الله، حيث يجتمع لسماعه الآلاف من البشر. بعد تحرك القطار جاء مفتش القطار فأبرز رجل الدين له التذكرة، وبعد أن نظر المفتش إلى التذكرة بتركيز وقلبها بين يديه قال للداعية وكان يعرف ملامحه من التليفزيون، أنا آسف أيها الأب الورع هذا القطار لا يقف على محطة البلدة التى تقصدها. ابتسم الرجل بتقوى وثقة وخشوع قائلا: بل سيقف! فنظر المفتش إليه باستغراب شديد قائلا: سيادتك هذا القطار سريع ولا يقف إلا على البلدان الرئيسية، فابتسم مرة ثانية بثقة وهو يتمتم بآيات من الكتاب المقدس وأرخى عينيه إلى أسفل فى حركة خشوعية ورفع إصبعه لسقف القطار وقال بهدوء شديد وثقة: هو هيوقفه.

هز المفتش كتفيه وترك الرجل فى تأملاته ومضى وهو يتمتم بعصبية شديدة. ركع رجل الدين على ركبتيه وأسند مرفقيه على كنبة القطار وصلى إلى الله قائلا: يا رب أنت تعلم الجماهير التى تنتظرنى الليلة، وهم ينتظرون منى رسالة عنك، وتخيل عدد البشر الذين سوف يخشعون قدامك من كلماتى ودموع التوبة التى سوف يزرفونها كالأنهار لمجرد أن صوتى يختنق بذكرك، وأنا أذكرهم بخطاياهم وآثامهم، جلالتك تربح الآلاف من البشر العائدين من قبضة إبليس بسبب عظاتى وتعاليمى ونصائحى، فهل كثير علىّ وعلى هذه الآلاف التى تنتظرنى أن تصنع معجزة صغيرة جدا وأنت الله العظيم وهى أن توقف القطار على المحطة التى أريد النزول فيها. أخذ يردد هذه الكلمات راجيا من الرب الاستجابة، حمل الملاك المختص بجمع طلبات البشر من الأرض هذه المطلبة ولم ينتظر حتى الموعد العادى لتقديم الطلبات إلى الله، لكنه طلب مقابلة سريعة ودخل إلى العرش، قال الملاك لله بعد أن سجد أمامه بخشوع: هناك طلب يحتاج إلى استجابة عاجلة، خاصة أن الذى يرفعه إلى جلالك رجل دين تقى ومشهود له بقدراته فى الدعوة، وعظمتكم لم ترفضوا له طلبا من قبل، أجاب الله: أنا أعرفه جيدا، ما مطلبته؟! قال الملاك لاشك أنك تعلمها لكنك وضعت نظاما لكى يصلى لك الناس ويرفعون طلباتهم، حتى يشعرون بأنك تستجيب لهم فتقوم علاقة حية بين الفرد وربه، حيث إنك أقرب إلى المؤمن من حبل الوريد وأنك تجيب دعوة الداعى، وطلب هذا الرجل هو أنه قد ركب بالخطأ قطارا لا يقف على البلدة التى يقصدها لإلقاء عظاته ودعوة الناس للتوبة وتخليصهم من يد إبليس، قال أحد الملائكة الواقفين حول العرش: وما المانع؟ عليك أن توقف له القطار، قال ملاك الطلبات كيف؟! قال ملاك العرش: دع الرجل الذى يقوم بفتح إشارة مرور القطار عند قدومه للمحطة التى يريد أن يترجل عندها رجل الدين أن يدير الإشارة حمراء بدلا من أن يجعلها خضراء كالعادة مما يرغم القطار على التوقف.

قال ملاك الطلبات: إن هذا الرجل لديه خمسة أولاد وهو فقير وملف خدمته به الكثير من الجزاءات، وإذا أخذ جزاء جديدا سوف يؤثر هذا على عائلته، فضلا عن أن هناك احتمالا أن يرفت من وظيفته وهذا سوف يجعله يشعر بالظلم ويتجه إلى الخطأ والانحراف ليكسب قوت يومه. قال ملاك آخر ينصح ملاك الطلبات لماذا لا تجعل بقرة تعبر القضبان عند المزلقان وعندما يصطدم القطار بها سوف يقف، قال الملاك، وما ذنب البقرة؟ وما ذنب صاحب البقرة؟ وما ذنب المسئول عن المزلقان؟ قال ملاك ثالث: لماذا لا يتعطل القطار السابق لقطار رجل الدين ويقف على المحطة ويبلغ لسائق قطار رجل الدين أن هناك قطارا متعطلا بالمحطة وعند ذاك يقف خلفه تماما، قال ملاك الطلبات: وما ذنب رواد القطار الذى يسبق قطار رجل الدين ليتأخروا عن مواعيدهم، وربما تكون هناك صفقات يخسرونها أو يتأخرون عن أعمالهم فيجازوا أو عن عائلاتهم المنتظرة لهم...الخ. ثم أردف ملاك الطلبات وهو يزفر متضايقا ومتحيرا قائلا: إن هؤلاء جميعا الذين ذكرتهم يا صديقى يقومون بعملهم فى منتهى الدقة، ولم يتأخروا لحظة عن مواعيدهم، ولم ينشغلوا عن أعمالهم بأى شيء فى يوم من الأيام، وصعب جدا أن نجعلهم ضحية لأخطاء لم يرتكبوها بل ارتكبها رجل دين ركب القطار بطريق الخطأ. وهنا نظر الله بغضب للملاك حامل الطلبات قائلا له: تصرف.

فخرج الملاك بعد أن سجد من الحضرة الإلهية مسرعا فى الوقت الذى كان القطار يقترب من البلدة المستهدفة بسرعة فائقة لعبور المحطة كعادته فى الوقت الذى كان فيه رجل الدين ما زال راكعا يصلى، وفجأة توقف القطار وسقط الراكبون على وجوههم من قوة الصدمة، ولحسن الحظ لم يصب أحد. هنا وقف رجل الدين مزهوا لأن الله استجاب صلاته والقطار توقف، تناول القبعة وارتدى المعطف وأمسك المظلة بيده اليسرى والكتاب المقدس بيده اليمنى وبحث عن مفتش القطار حتى وجده، ونظر إليه بابتسامة متعالية، وكأنه يقول له: ألم أقل لك يا ملحد يا كافر يا من لا تؤمن بالمعجزات أن القطار سيتوقف. ولم يستطع المفتش أن ينظر إلى عينى رجل الدين فنظر إلى الأرض خجلا. نزل رجل الدين إلى محطة القطار لكنه لم يجد أحدا فى استقباله كما هى العادة، فقال فى نفسه لابد أنهم سوف ينتظروننى فى موعد القطار الذى يقف على بلدتهم، فليس من المعتاد أن يقف هذا القطار هنا.

واتجه إلى الفندق الذى اعتاد أن ينزل فيه ووجد أن راعى كنيسة البلدة قد حجز له حجرة معتاد أن ينزل بها، فتناول الغداء فى المطعم وصعد إلى الحجرة واستراح لمدة ساعتين، وفى موعد اجتماع المساء نزل من الفندق واتجه للكنيسة، وهناك استقبلوه بالترحاب، وامتلأت الكنيسة بآلاف من البشر الذين أتوا للاستماع إليه ووقف ليعظ وصال وجال وتحرك على المنبر فرفع صوته وخفضه، وبكى وبكت الجماهير. بعد انتهاء العظة قال: هل هناك من رفع صلاة التوبة فرفعت الآلاف أياديها، فشعر بسعادة خاصة، وكأنه يقول لله أشكرك على المعجزة وها أنت ترى النتيجة.. إلا أنه لاحظ أن راعى الكنيسة متغيبا عن الاجتماع وهذه ليست من عاداته ولا من آداب الضيافة، لكن مساعد الراعى والذى كان يقود الاجتماع وقف بعد العظة ليشكر رجل الدين، وفى نهاية كلمته قال: كنا نتمنى أن يكون معنا راعى الكنيسة هذه المرة كما تعودنا لكنه كان ذاهبا إلى محطة القطار لانتظار ضيفنا العزيز مبكرا بعض الشيء وإذا بالقطار السريع الذى يسبق القطار الذى يقل الضيف صدمه فمات!!

قرأت هذه القصة فى إحدى المجلات الدينية الأمريكية المتخصصة لرجال الدين منذ ما يقرب من ثلاثين عاما وقد ألفها رجل دين مسيحى.

جاءت تعليقات القراء فى العدد التالى كثيرة ومتنوعة وقد اخترت لك عزيزى القارئ تعليق ثلاثة من رجال الدين، كتب أحدهم يقول للمؤلف: هل وصلت بك السخافة أن تجعل البقرة أهم عند الله من رجل الدين فتنقذ البقرة وتميت رجل الدين؟ وكان الرد فى العدد الذى يليه من رجل دين آخر يقول هذا طبيعى لأننا نحن والسماء أسرة واحدة ولو حدث لنا هذا لن نشتكى (فالحكاية فى بيتها) ثم إن الله سيعتنى بأسرنا أفضل منا.

أما التعليق الثالث فيقول: قصتك توضح أن المعجزة استثناء لبعض المؤمنين دون غيرهم، وفى هذا ظلم لباقى المؤمنين الذين لم تحدث معهم أى معجزة فى حياتهم بل ظلم أيضا لغير المؤمنين، فالاستثناء فى دنيا البشر ظلم فكم وكم فى دنيا الله؟! إنك تحاول القول أن المعجزة عادة ما تكون على حساب آخرين كما هو واضح من القصة، فهل هذا رأيك فى المعجزات؟ لماذا لا تقل أنك لا تؤمن بالمعجزات الإلهية وبالقضاء والقدر؟

ولعلك تلاحظ عزيزى القارئ أن هذا السؤال يحمل إرهابا للمؤلف ؟وربما ذكرك هذا بأحد البلدان التى توجه فيها هذه الأسئلة على مدى الأربع وعشرين ساعة يوميا على الهواء مباشرة لمن يحاول أن يجتهد فى الدين أو يقدم حلولا عصرية وتفسيرا للآيات المقدسة تناسب الزمن الذى نعيش فيه.

لا أعرف لماذا تذكرت هذه القصة عند حدوث تصادم القطارين فى العياط، والمقالات التى كتبت والحوارات التى دارت فى مجلس الشعب والإعلام، عن مسئولية الموظف الصغير ومسئولية الوزير واستقالته ودور القضاء والقدر، والجاموسة الراقدة تحت القطار فى الصفحة الأولى لكل الصحف، والتى ذكرتنى بأحد الحلول المطروحة فى قصتنا.. ثم الفارق الضخم بيننا وبينهم فى تناول القضايا اللاهوتية والفقهية مثل (الله ــ الإنسان ــ القضاء والقدر ــ الصلاة واستجابتها ــ الملائكة ــ المعجزة..الخ) ألسنا نحن أكثر الشعوب تدينا، وكله تمام..؟! وأليس هم أيضا منحلين وعلمانيين..ولا انت رأيك إيه؟

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات