يبلغ الدكتور مصطفى الفقى بعد أيام عامه الثمانين، نتمنى له دوام الصحة وطول العمر، وهى مناسبة تستحق أن نتوقف أمامها، ونتحدث عنه قليلا. فهو شخصية استثنائية، يصعب أن تحصره فى تصنيف معين أو تُقيم مسيرته من زاوية واحدة فقط. دبلوماسى، ومثقف، وأكاديمى، وسياسى، وكاتب، وإعلامى، له حضور لم ينقطع على مدار ستة عقود فى ساحات الفكر، ونوافذ الإعلام، ودوائر السياسة، وقد أضفى تنوع مواهبه عليه ثراء من نوع خاص، واستطاع أن يجدد حضوره خلال حقب تاريخية مفعمة بكل أشكال التناقض، دون أن يتأثر بتقلبات السياسة أو زوال المناصب. فهو ليس دبلوماسيًا تقليديًا ينتهى دوره ببلوغ سن المعاش، أو سياسيًا فى حقبة معينة يتضاءل حضوره بعدها، ولا تجده إلا فى قاعات العزاء والندوات العامة، أو أكاديميًا مدرسيًا يتوارى عن المشهد عندما يتقدم به العمر، ويتراجع إنتاجه العلمى، أو موظفًا رفيعًا يترك موقعه فيغيب عن ذاكرة المؤسسة التى كان يعمل بها، وربما يرأسها.
إذا أُغلق باب أمامه، تجده يفتح آخر. عندما ترك مؤسسة الرئاسة فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك لم ينزوِ، بل أسهم بقوة فى الحياة الفكرية بكتبه ومقالاته وندواته، وفى كل محطات حياته لم يكن ضيفًا عابرًا، بل مؤثرًا فى الدبلوماسية، والفكر، والسياسة، والإعلام، والحياة العامة. يتحدث إلى السلطة بلغتها، ويخاطب الإعلام بما يناسبه، ويرسل من خلاله رسائل صريحة ومستبطنة، ويتحاور مع النخبة والمثقفين، مصريًا وعربيًا، له ــ بالتأكيد ــ خلطته المميزة، التى لا يدرك غيره سر صنعتها. وقادته شفافيته فى الحديث، حتى عن نفسه، إلى حرمان خصومه من تسجيل أهداف فى مرماه، إذ كلما ظنوا أنهم يعرفون شيئا خفيًا عنه، كان هو الأسبق إلى إذاعته. وقد جلبت مواهبه المتعددة عليه متاعب كثيرة عندما خاض فى مناطق شائكة، فهناك مواقف فى مسيرته الممتدة تحدث فيها كمثقف فأغضبت آراؤه السلطة، وتحدث كإعلامى، من خلفية معرفته بأحداث ووقائع عامة وخاصة، فانتقده أصحاب شعار «ليس كل ما يُعرف يُقال»، وهناك تصريحات إعلامية له أحدثت ضجة، سمعت من بعض منتقديه أنهم يتفقون معه فى الرأى، لكن يعيبون عليه خروج حديثه إلى العلن. ورغم كل ذلك فإن لديه خزانة أسرار لم يفتح أبوابها، وأظنه لن يفعل.
فى الحياة العامة، استطاع أن ينسج شبكة علاقات واسعة، مع الموالاة والمعارضة بكل أطيافها، امتدت إلى كل الحركات السياسية، والمثقفين والكُتاب، والمؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية، وعالم المال والأعمال، وأهل الفن، بحيث صار مؤسسة فى ذاته. لم يربط علاقاته الواسعة بسلطة أو موقع وظيفى، بل تجده على دراية بالتكوين الاجتماعى للعائلات المصرية، وجذورها، وتشابكات العلاقات بينها، ويعرف عن قرب كل شخص يتعامل معه، وخلفيته العائلية، وظروفه الإنسانية، ويتواصل معه، لا يرد متصلا به، يعرفه أو لا يعرفه، ويُقدم المساعدة لكل من يسأله، ويحرص على مجاملة الآخرين، وإن لم يجد سببًا لذلك، اخترعه، مستفيدًا من ذكائه الاجتماعى، وهو يعرف أقدار الناس، حتى وإن اختلف معهم، وأكثر الناس الذين يقول عنهم إنهم سببوا له متاعب فى حياته، يشهد بقدرهم ومكانتهم، وهناك شخصيات وقفت إلى جواره يعترف بفضلها، ولكنه انتقد مواقفها فى بعض الأحيان، وهناك شخصيات ابتعدت عن بريق السلطة، وانفض الناس من حولها، لكنه ظل على تواصل معها.
فى لحظات غضبه، قاس منفعل، يطبع برج العقرب الذى ينتمى إليه بصمته عليه، لكنه سرعان ما يعود هادئًا، بسيطًا، طيبًا، يسعى إلى ترضية الآخرين، حيث يزعجه أن يحمل شخص شيئًا سلبيًا فى نفسيته تجاهه، وإذا فُرض عليه الخلاف مع غيره، سعى إلى تجاوزه، أو الحد منه، فهو ليس من أنصار التوغل فى الخصومات الشخصية، وينصح بذلك، لأنه يعرف أن خسائر أى خلاف تطول طرفيه، مهما اختلفت موازين القوة والضعف بينهما. ولا يدانيه أحد، على الأقل ممن أعرفهم، فى قدرته على الحديث، والاسترسال فى الحكى، وخفة الظل، والتماس بهجة الحياة.
الدكتور مصطفى الفقى حالة أكثر منه شخص، ظل مؤثرًا فى ساحات السياسة والفكر والإعلام لعقود ممتدة. تغيرت الأنظمة والأحوال، ولم يصمت، رغم أن حديثه كلفه أحيانًا صداعًا كان فى غنى عنه، وجعله فى مرمى النيران، لكنه يفعل كل ما يتسق مع شخصيته، وفى كل معركة يخوضها يظن البعض أن دوره أوشك على الذبول، فإذ بهم يجدونه يجدد حضوره، ويرفض موقع الغياب.