يحار الإنسان فى تفسير العديد من مواقف دول مجلس التعاون الخليجى السياسية، مع طبعا تفاوتها فى الشدَّة والاتّساع. وتبدو تلك المواقف أحيانا وكأنها ممارسات عبثية فى السياسة لا يمكن أن تخدم المصلحة الوطنية لدول المجلس منفردة أو مجتمعة ولا مصلحة الأمة العربية القومية.
ويسأل الإنسان نفسه المرَّة تلو المرّة عن الأسباب المعقولة الكامنة وراء هذا الموقف أو ذاك فلا يحصل، مع الأسف، إلا على واحد من التفسيرين التاليين: الارتهان لإملاءات القوى الخارجية، إما خوفا أو طمعا، أو مواجهة الأحداث بسوء فهم وقصر نظر يؤدٍّيان لسوء تقدير للمخاطر والتّبعات التى يقود إليها ذلك الفهم.
كلا التفسيرين يعطى انطباعا سلبيا عن كيفية اتخاذ القرارات فى دول المجلس، بل وعمن يتخَّذها. دعنا نأخذ أمثلة لتوضيح ما نقوله.
إن تعاطف دول المجلس، مجتمعة أو منفردة، مع هذه الثورة الربيعية العربية أو تلك، مع ذلك الحراك أو تلك المطالب، حتى ولو كان ذلك التعاطف فيه الكثير من الانتقائية وأحيانا الكثير من التناقض، فهذا تعاطف ترحّب به الغالبية السَّاحقة من شعوب دول المجلس. ذلك أن مبدأ مساندة شعوب الأمة العربية لبعضها البعض ضد الاستبداد والظلم هو شعور عفوى فى الفرد العربى، وهو مبدأ قومى عروبى مقدّس تبنّته وحاربت من أجل ترسيخه أجيال عربية فى كل أرجاء الوطن العربى الكبير. فمصير شعوب الأمة العربية، فى صعودها وتألُّقها، وفى هبوطها ومصائبها، هو مصير واحد أثبتته أحداث التاريخ المشترك الممتدّ ويتطلّبه واقع الأمة المتردّى حاليا.
أن يتمّ ذلك التعاطف من خلال المواقف السياسية والإعلامية، ومن خلال الدّعم المالى لكل قطر متضّرر أو للملايين من الهاربين من جحيم الصّراعات العنيفة، فهذا أيضا معقول، إن أحسنت الممارسة وتمّت بنزاهة عواطف الأخوّة والإنسانية.
لكن أن تقحم بعض الجهات، فى بعض دول المجلس، نفسها كطرف فى الصّراع الميدانى المعقَّد المتشابك فهذا أمر عصّى على المنطق والفهم وبالتالى يضطرٌّ الكثيرون لتفسيره بأحد التفسيرين السّابقين: الارتهان أو قصر النَّظر السياسى.
مثلا، إن تسهيل تجنيد وتدريب وتجهيز وانتقال الألوف من شباب الجهاد الطائفى العنفى، غير المؤمنين أصلا بأهداف الثورات والحراكات الديمقراطية، القائمة أنشطتهم على فهم خاطئ مبتور لعقيدة الجهاد الإسلامى، وبالتالى لديهم قابلية لارتكاب الحماقات والخطايا التى تدٍّمر نسيج المجتمعات العربية، وقد توصل فى النهاية إلى تفكُّك وزوال الدول.. إن الدخول فى هذه اللعبة هو لعب بالنار التى ستحرق الجميع. ويعجب الإنسان كيف نسيت تلك الجهات فواجع وكوارث افغانستان وباكستان وكيف عميت عَّما يحدث فى العراق وليبيا والصومال وتونس وسوريا واليمن، بل فى واقع الأمر فى كل أرض العرب، من جنون وخزى وحقارات تدمى القلوب.
وتزداد قتامة المشهد عندما يتحمّس البعض بصورة هيستيرية لإقحام مجلس التعاون فى صراعات مصالح الدول الكبرى فى الأرض العربية فينادى البعض بدخول جيوش الناتو فى هذا البلد العربى أو قصف المنشآت الرسمية فى ذاك البلد.
ويقف الإنسان مشدوهاَ أمام المشاركة فى سوق نخاسة بيع وشراء هذه الجماعة المعارضة أو تلك، فيقحمون مجلس التعاون فى صراعات محلية يعرف القاصى والدانى أن الجهة الوحيدة التى ستحسمها هى شعوب تلك البلدان ستعرف فى النهاية أين تقع مصلحتها الوطنية العليا ومن هم أعداء تلك المصلحة.
هنا نحتاج لطرح هذا السؤال المحورى: ماهو الدور الأساسى الذى يجب أن يلعبه مجلس التعاون فى هذه الفترة الحرجة من ثورات وحراكات الربيع العربى ؟
فى اعتقادى أن الجواب يكمن فى الاستعمال الحصيف العاقل لبعض من فوائض الثروة البترولية الهائلة إبَان الفترات الانتقالية للثورات والحراكات. أن الفترات الانتقالية تواجه دائما مصاعب مؤقتة فى حقول المال والاقتصاد والخدمات العامة وفى شحٍّ الاستثمارات الخارجية. إنها مصاعب تؤجٍّجها قوى الثورات المضادة وقوى التآمر الخارجية.
إذا كان المجلس يحرص على دعم الشعوب العربية الثائرة على الاستبداد والظلم فليقم بهذه الخدمة دون شروط ودون انحياز لهذه الجهة الداخلية أو تلك. وإلا فإن الدخول فى لعبة الصّراعات المحلية إبان الفترة الانتقالية سيجعل من كل مساعدة نوعا من الرّشوة أو الابتزاز أو حتى نوعا من مضادة الثورات والتغييرات الكبرى.
وفى جميع الأحوال فإنه يكفى أن يحمل شباب ثورات وحراكات الربيع العربى عبء مقارعة مؤامرات قوى الخارج وقوى الثورات المضادّة فى الداخل حتى نضيف من جهتنا أعباء تدخلاتنا غير المدروسة وغير المفيدة، تدخلاتنا المرتكبة فى كثير من صورها.